أصوات المعلقين على هذه النتيجة من داخل الحزب والمقربين منه والمحسوبين عليه، أغلبها توجه سهامها للرئيس أردوغان فتحمله مسؤولية هذه النتيجة، بسبب انفراده بالرأي واعتماده على آراء مستشارين لا هم لهم سوى مصالحهم الشخصية الضيقة، وأبعد ما يكون عن نبض الشارع.

هو فارق كبير لم يكن أحد يتوقعه، 800 ألف صوت ( نحو 9% ) تقدم بها مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو على منافسه مرشح الحزب الحاكم، رئيس البرلمان السابق وآخر رئيس للوزراء  بن علي يلدرم، وذلك مقارنة ب 13 ألف صوت فقط كانت الفارق بينهما في انتخابات 31 مارس الماضي لصالح إمام أوغلو.

هذا الفارق الكبير بين الجولتين، يؤكد رفض الناخبين لحجج إعادة الانتخابات في إسطنبول، إذ جاءت الأصوات كرد فعل غاضب على تطاول يد الحزب الحاكم على شرف صندوق الانتخابات الذي لم يجرؤ أحد على أن يمسّه منذ بداية التعددية الحزبية في تركيا عام 1950، وحتى خلال فترات الوصاية العسكرية والانقلابات. فالضغوط التي مارسها أردوغان على لجنة الانتخابات لتختلق ذريعة – جاءت غير مقنعة وغير منطقية – لإعادة الانتخابات، دفعت الناخبين للانتصار لصالح أكرم إمام أوغلو الذي بات في نظرهم ضحية مظلوم.

سبب آخر كان وراء هذه الخسارة المدوية لأردوغان، ألا وهو استمرار التدهور الاقتصادي، والوعود الكاذبة بالإصلاح والتغيير، فأردوغان وحزبه خاضوا انتخابات البلدية في 31 مارس بوعود وردية بتجاوز الازمة الاقتصادية الحالية سريعا، وفيما مرت 3 أشهر بعد تلك الانتخابات، فإن الوضع الاقتصادي ازداد تراجعا وترديا. بل إن خيم بيع الخضراوات والفواكه بسعر مدعوم من قبل الحكومة التي انتشرت في إسطنبول قبل انتخابات مارس، أغلقت جميعها في اليوم التالي من الانتخابات في 1 أبريل، وذلك على الرغم من وعود أردوغان باستمرار هذه الخيم حتى بعد الانتخابات من أجل دعم محدودي الدخل.

الأهم من هذا كله، أن الشارع فقد ثقته بأردوغان ووعوده الوردية، ورواياته عن المؤامرات الكونية، وأرسل رسالة له مفادها ألا يستخف بعقول الناخبين. انتهى سحر خطب أردوغان، وما عاد يؤثر في الناخبين الذين تابعوا على مدى سنوات تبديله لمواقفه وآرائه السياسية بشكل مستمر، فبينما خاض الانتخابات البلدية قبل 3 أشهر بخطاب قومي متشنج ضد الاكراد، عاد ليتودد من عبدالله أوجلان زعيم حزب العدال الكردستاني المحظور والمصنف إرهابيا في سجنه، الأسبوع الماضي أملا في حصد أصوات المئات من الناخبين الاكراد في إسطنبول.

مظلومية مرشح المعارضة، والوضع الاقتصاد، وخطاب أردوغان وموافقه المتلونة والمتغيرة، كل ذلك كان سببا في خسارته لبلدية إسطنبول أكبر البلديات في تركيا وأكثرها غنى وتأثيرا على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

حساب عسير ينتظر العديد من مستشاري أردوغان وقيادات حزبه الحالية، تلك التي أقنعته بضرورة إعادة إجراء الانتخابات في إسطنبول، وأكدت له القدرة على الفوز فيها في جولة الإعادة، لكن المشكلة الأساسية هنا، أن على رأس هؤلاء صهره وزير المالية براق البيرق، الذي يتصرف مؤخرا وكأنه الوريث الشرعي الوحيد لخلافة أردوغان في الحزب، أو لعله كما يصفه البعض قد أنشأ حزبا داخل الحزب الحاكم، فالبيرق ومنذ دخوله إلى الحزب وهو يعمل على إزاحة منافسيه من القيادات القديمة، وأشهر من أطاح بهم كان أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء الأسبق، ليفسح الطريق لتقدمه وترقيه في مراتب الحزب هو ورجاله الذين باتوا يسيطرون على الكثير من مفاصل الحزب.

وفقا لنتيجة الانتخابات فإن أردوغان مطالب بتغيير سياساته والعديد من قيادات حزبه، لكنه ما عاد يملك بدائل كافية، بعد أن طرد وأخرج العديد من القيادات القوية والمهمة وهمشها كي ينفرد بحكم الحزب. يشير البعض على أردوغان أن يصالح رفاق دربه القدامى مثل أحمد داود أوغلو أو عبدالله غول، لكن كبرياء أردوغان من ناحية، ومطالب هؤلاء بالإصلاح وتوسيع الحريات واستقلال القضاء التي لا يقبل أردوغان الخوض فيها من ناحية أخرى، تعيق هذا الطريق.

المعارضة والمحللون السياسيون بدأوا يتحدثون من الان عن احتمالات احتكام تركيا إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة خلال عامين أو أقل، بحجة أن الشارع بدأ يتغير، وأن الانشقاقات من حزب أردوغان قد تتسارع وتأخذ شكلا أكثر تحديا له ولسلطته، وبسبب احتمال أن ينفض عنه شريكه القومي دولت باهشلي. لذا فإن أردوغان سيعود على الأغلب إلى تكتيكاته السياسية القديمة، وعلى رأسها الهدوء حتى تمر العاصفة، وبعد ذلك العودة بقوة.

من المتوقع أن يظهر أردوغان بصورة جديدة أمام الشارع، متبنيا خطابا تصالحيا ووعودا بالإصلاح، يرسل رسائل إلى رفاق دربه القدامى للتواصل والمصالحة، ويعلن عن استعداده لتوسيع تحالفه السياسي ليضم طيفا أوسع من المعارضة في الحكم، وينفتح على حل القضية الكردية من جديد. لكن كل هذا سيكون فقط تكتيكا من أجل امتصاص الصدمة، وتبديد فرحة المعارضة وتشتيت انتباه الشارع عما حدث وعن قصة خسارته الانتخابات التي لا يريد لها أن تتجذر في عقول الناخبين. لكنه بعد ذلك على الاغلب سيسلط القضاء على رئيسي بلديتي أنقرة وإسطنبول المعارضان من أجل الحكم عليهما بالسجن في قضايا يرفعها "مواطنون متطوعون" ضدهما، لينفذ أردوغان بذلك تهديده السابق بحبس رؤساء البلديات من المعارضة حتى لو فازوا في الانتخابات. هذه الخطوة القضائية قد تأتي بعد عدة أشهر من خطوة إظهار الرغبة في التصالح والإصلاح، كي تبدو خطوة الحكم على رئيسي البلدية وكأنها خطوة مستقلة لا شأن لأردوغان بها. فالرئيس أردوغان يدرك أن سيطرة المعارضة على البلديات الكبرى يعني بداية النهاية لحقبة حكمه السياسي، فهذه البلديات هي الممول الرئيسي للكثير من الجمعيات والمؤسسات المقربة من أردوغان، والتي ستنقلب عليه إن هي فقدت التمويل الذي كان يؤمنه لها، وهي مبالغ بمئات ملايين الدولارات. كما أن أرشيف هذه البلديات مليئ بفضائح الفساد التي إن ظهرت في الاعلام على يد المعارضة، فإنها ستتسبب في كوارث سياسية يستحيل التصدي لها.

لكن هذه التكتيكات التي قد توفر لأردوغان بعض الوقت الإضافي في الحكم، لن يكون لها أي أثر قوي دائم، بل على العكس تماما ستزيد من نقمة الشارع عليه ورفضه له. فأردوغان تجاوز مرحلة الإصلاح منذ زمن طويل، فالإصلاح المطلوب يعني حرية رأي وتعبير واستقلال القضاء، وهو ما ان توفر، فسرعان ما تنكشف الكثير من فضائل الفساد التي تلاحقه وتلاحق قيادات حزبه الحاليين، ليكون مستقبله بيد قضاء لا يسيطر هو عليه.  

في المقابل ستشهد تركيا حركة نشطة على صعيد المعارضة وخصوصا تقاربا تدريجيا بين رئيس بلدية إسطنبول الجديد أكرم إمام أوغلو، والرئيس السابق عبدالله غول الذي ينوي تشكيل حزب جديد يضم إليه قيادات انشقت، أو ستنشق عن حزب أردوغان. ومن شأن هذا المزيج أن يجمع من حوله شريحة أكبر من الناخبين بحيث يتحول إلى تيار قوي يتحدى الرئيس أردوغان وحزبه.

لن يكون تأثير هذه الانتخابات محصورا على ساحة السياسة الداخلية فقط، فأردوغان يجمع ويخلط دائما بين السياسة الداخلية والخارجية، ويسخر كل منهما لخدمة الاخر. ويكفي لتصور التأثير الحاصل والمتوقع، أن نتخيل صورة أردوغان الخراج من هذه الهزيمة الانتخابية، وهو يلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد يومين على هامش قمة العشرين في اليابان للحديث عن قضايا خلافية شائكة ومعقدة، فماذا سيكون رد أردوغان إذا ما وجه إليه ترامب السؤال التالي: السيد أردوغان، هل أنت متأكد أن مصلحة بلادك تقتضي تفضيلك شراء صواريخ إس400 الروسية، على حصولك على طائرات إف35 الأميركية؟ أرجو أن تعيد التفكير جيدا إذ يبدو لي أن الشارع لا يشاطرك الرأي مؤخرا في سياساتك.