تتلاقى الثورة الإيرانية وجماعة الإخوان في نقطة التكوين الأساسية وهي مفهوم "الأممية" الجامعة. وإذا كان الخميني قد استلهم من حسن البنا وسيد قطب مبادئ النشأة، فإن التيارين السني والشيعي لم يسجلا تلاقياً حقيقياً حتى مع تأييد تنظيم الإخوان لانتصار الثورة الخمينية 1979، فلقد ظل التوازي بين التيارين سمة من السمات، حتى مع تبلور المشروع الإخواني نهاية السبعينيات وتصاعد العنف نحو الدول العربية.

قدمت حرب أفغانستان البيئة المواتية للحركات الإسلامية، خاصة السنية التي نجحت في توظيف الحرب وفقا لمخططها، بالانتقال إلى العنف المسلح، كانت تلك الحرب فرصة تاريخية، حصلت منها التيارات الإسلامية على فرصة تشكيل أذرع العنف، أو ما يمكن توصيفه بالعضلات، بعد عقود طويلة لم تجد فيها تلك التيارات هذه البيئة، التي تداخلت فيها المصالح الدولية مع أصحاب الأفكار المتشددة.

كان ما يصطلح عليه دعاة (الصحوة) يتغلغلون في المجتمعات العربية، حتى جاءت اللحظة الأكثر حدة في التاريخ السياسي العربي، بعد أن غزا العراق الكويت، فكان من الواضح أن جهة ما من الحركات الإسلامية، كانت متوثبة وعملت منذ بداية الغزو العراقي للكويت، على التوظيف العقائدي للأزمة، وحاولت توصيف الغزو على أسس دينية مستغلة الوجودين الأميركي والغربي في المنطقة، وبعد تحرير الكويت جاء الحدث الأهم، عندما عقدت جماعات الإسلام السياسي اجتماعها الأول في العاصمة السودانية الخرطوم.

دعا القيادي في تنظيم الإخوان حسن الترابي إلى انعقاد المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، واستجاب أكثر من 500 شخصية من خمس وأربعين دولة، كان الهدف المعلن للمؤتمر تشكيل مظلة سياسية بدلاً من منظمة العالم الإسلامي، للتعامل مع متغيرات المرحلة السياسية، التي شهدت سقوط الاتحاد السوفييتي وهزيمة الجيش العراقي على يد التحالف الذي قادته الولايات المتحدة، وإعلان واشنطن قيام النظام العالمي الجديد.

الأجندة الحقيقية لم تكن كذلك، فالمؤتمر جاء بعد عامين من سيطرة الجبهة الإسلامية على حكم السودان، وبحكم المساحة الجغرافية الكبيرة، رأت قيادات التنظيم الدولي للإخوان، أنه من الممكن أن يتحول السودان إلى قاعدة انطلاق لمشروعهم، الذي تضمن أهدافاً محددة بإزالة دولة إسرائيل، والقضاء على الولايات المتحدة، في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي، وإقامة النظم الإسلامية الحاكمة (الحقة) في الدول الـ57 كافة التي يمثل الإسلام ديانة السواد الأعظم من سكانها.

في الخرطوم اجتمع للمرة الأولى بشكل علني طرفا الإسلام السياسي الإخوان والنظام الإيراني، قيادات ومنظرون للحركات الإسلامية بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، وحتى القوميون العرب وجدوا مكانهم بين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وراشد الغنوشي وعماد مغنية وعبدرب الرسول سياف وعبدالمجيد الزنداني وعباسي مدني وإبراهيم شكري، وبينهم حل ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة.

المؤتمر تكرر انعقاده مرتين عامي 1993 و1995 أي أن المؤتمر التأسيسي أطلق حزمة من المشروعات التي ظهرت في الشرق الأوسط بشكل واضح ومباشر، لعل أهمها كان ظهور تنظيم القاعدة وشن الهجمات الإرهابية في السعودية، وشهدت المرحلة تقاطعاً واضحاً بين حزب الله اللبناني والمحسوبين على "السلفية الجهادية"، ولعل نموذج حركة حماس في قطاع غزة، يمثل هذا النتاج بين التيارين وإن كانا ظاهرياً لا يلتقيان فكرياً، غير أن المصالح بينهما أكدت أنهما قابلان للتزاوج وإنتاج هذه المكونات المرتكزة على مواجهة الدولة الوطنية العربية، التي تحولت من خلال مؤتمر الخرطوم، إلى هدف يجب تحطيمه، للعبور بمشاريع إيران والإخوان.

قد يكون من الملائم توصيف ما سبق المؤتمر في السودان بأنه مغامرة للنظام السوداني في تحويل الخرطوم إلى رأس حربة لمشاريع الإسلام السياسي، الحركة الإسلامية السودانية التي أغرقت الشعب السوداني في الفوضى والجوع والفقر والجهل، كانت هي ذاتها التي احتضنت زعيم القاعدة وبلورت تغيير المشهد العربي بشكل مباشر، فالسعودية التي عرفت الهجمات الإرهابية في التسعينيات لم تكن الوحيدة، فلقد شكلت ضربة القاعدة للمدمرة الأميركية إس إس كول عام  2000 في عدن وما سبقتها من هجمات، ضربت كينيا وتنزانيا سوى مؤشر على تصعيد العنف الإرهابي، الذي بلغ ذروته في هجمات مانهاتن (سبتمبر 2001).

لم تكن الجماعات الإرهابية المحسوبة على الشق السني، تنطلق منفردة في المشهد الدامي فلقد أظهرت الأذرع الإيرانية كثيراً من بطشها مع سقوط نظام صدام حسين في أبريل 2003، كان الإيرانيين يذهبون باتجاه ما أطلق عليه ملك الأردن عبدالله الثاني الهلال الشيعي بأكثر سرعة مما يظن المراقبون، إيران كانت بالفعل على البحر المتوسط، ليس فقط بواسطة حزب الله في لبنان، بل كانت حركة حماس في غزة جزءاً من ذلك النفوذ الإيراني، الذي تم العمل على تعزيزه عبر كل ما تمتلكه إيران من إمكانات.

نظام قطر لم يكن بعيداً عن هذا التحشيد فهو واحد من أهم اللاعبين في الفوضى، فأين كانت قطر من كل هذا؟ كانت الأقرب، ولم يكن انقلاب حمد بن خليفة على والده، سوى المدخل للمشهد الفوضوي الذي عملت الدوحة على توظيفه لمصلحتها التوسعية، والمتقاطعة مع إيران وتركيا وغيرهما من القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، وإذا كانت السياسة القطرية قد اتسمت بالازدواجية، فهي جزء من البراغماتية التي تعتنقها أيضاً الحركات الإسلامية سياسياً، فالكل يظهرون تمسكاً عقائدياً يتلاشى في السياسة.

عام 2011 الذي شهد ما يسمى (الربيع العربي) وإن كان فعلا مدمرا، إلا أنه يجب أن ينظر إليه من جوانب أخرى، أهمها أنه يمثل نقطة اختبار حقيقية للدول العربية، التي استطاع بعضها الصمود، فيما سقط آخرون وعرف النوع الثالث اهتزازات عنيفة، أدت إلى تغيرات في بنيتها السياسية، لكنها عرفت طريق العودة إلى مسارها، ليس هذا فحسب بل إن المرحلة العنيفة أفرزت في مقابل محور الشر محوراً آخر يمكن تسميته بالاعتدال العربي، الذي لعبت فيه السعودية والإمارات الدور المحوري، مع تباين النتائج في الإسهامات لمساعدة الدول المتضررة، فإذا كانت مصر والسودان وتونس نماذج استطاع محور الاعتدال مساعدتها، فإن نماذج أخرى انزلقت في الاحتراب كاليمن وسوريا وليبيا.

من الأهمية أن تتم قراءة واقع الشرق الأوسط من تلك الزوايا الخفية، التي كانت تصنع فيها الأجندات التي تعمل على توظيف ما تحت يدها لتحقيق أهدافها، فما حدث في المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في الخرطوم 1991 كان يمكن منذ البداية التعامل معه بمسؤولية أكثر ومن دون اعتبارات لتداخلات استفادة الجماعات والتيارات مما يتاح لها من خلال الأنظمة السياسية الفاسدة أو تلك المؤدلجة.