من المهم النظر إلى أن اللحظة الفارقة، بدأت مع إعلان دول المقاطعة العربية (السعودية والإمارات ومصر والبحرين) قرارها اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية أمنها من النظام القطري، فمن هذا الحدث أعلنت تركيا إنشاء أول قاعدة عسكرية لها خارج الحدود التركية، ورغم النفوذ التركي في أجزاء من شمالي سوريا والعراق منذ سنوا، فإن الأتراك لم يعلنوا عن قواعد عسكرية خارج حدودهم، حتى أعلنت قطر إنشاء القاعدة العسكرية التركية في أراضيها.

رغم أن التاريخ العربي في منطقة الخليجية يحمل إرثاً من الفخر بمعارك أهالي المنطقة وقبائلها مع الحاميات العثمانية، التي أدت إلى طرد العثمانيين من جزيرة العرب، وتمثل تلك الحقبة الزمنية مصدراً من مصادر الفخر الذي مازالت الأجيال تتوارثه، لذلك استهجن أبناء الخليج القرار القطري، بمنح تركيا قاعدة عسكرية على تراب قطر، التي عرفت معركة الوجبة عام 1893ضد والي البصرة العثماني، الذي هُزم في هذه المعركة التاريخية لأهالي قطر.

التخلي القطري عن السيادة الوطنية، جاء في سبيل تقاطع المصلحة بين أنقرة والدوحة بشأن الهدف الاستراتيجي المتمثل بمشروع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، لذلك لم ينظر القطريون لمسألة السيادة بالقدر ذاته الذي اعتبروا فيه، أن الوجود التركي على أرضهم، سيمنح الأتراك خطوة كانت تركيا تحتاجها، وهو ما ظهر في إعلان تركيا إنشاء قاعدة عسكرية في الصومال أكتوبر 2017 وهي القاعدة العسكرية الثانية للأتراك خارج حدودهم.
كان من الواضح أن تركيا وضعت استراتيجية تعتمد فيها على التمدد فالوجود في الصومال وقطر يعني أن تركيا وضعت إصبعاً لها في الخليج العربي، وإصبعاً آخر جنوبي البحر الأحمر مع تحفزها الدائم للوجود في الضفة الأخرى عبر اليمن، وهو ما يسعى إليه فرع الإخوان اليمني منذ عام 2011 بمحاولتهم التمهيد للوجود التركي في اليمن، سواء في عدن أو الحديدة كأهداف موضوعة لخدمة الأجندة الإخوانية.
نهاية عام 2017 أعلنت تركيا وضع إصبعها الثالث في سواكن السودانية، بعد الاتفاق مع نظام عمر البشير، كان الحدث مؤشراً عملياً يكشف النوايا التركية بتعزيز الوجود في البحر الأحمر مما يعني تهديد الأمن القومي العربي بخطر لا يمكن تجاوزه من الناحية العسكرية والأمنية، فتنظيم الإخوان الذي أسقطته ثورة يونيو 2013 عاد من خلال تركيا أكثر خطورة، معززاً بالغطاء العسكري والمحاولة الواضحة للتماس مع أكبر دولتين عربيتين السعودية ومصر.

التدخل التركي في الأزمة الليبية بدأ مبكراً منذ 2011 ولم تخفي أنقرة دعمها لحلفائها من المليشيات الإخوانية هناك، ومع انحسار مساحة سيطرة المليشيات وتقلص وجودها الذي انحصر في العاصمة طرابلس، لم تجد تركيا أمامها إلا الكشف عن وجودها الصريح، خاصة بعد أن أطلق الجيش الليبي عملية تحرير طرابلس، لتظهر محاولات عدة، لإرسال أسلحة للمليشيات الإرهابية، في انتهاك فاضح لقرارات مجلس الأمن الدولي، التي تحظر إرسال السلاح إلى ليبيا.

ومع تضييق الجيش الليبي الخناق على مليشيات طرابلس، حدث تحول كبير عندما بدأت تركيا بدعم المليشيات في طرابلس بالطائرات المسيرة عن بُعد، ومع تعامل الجيش الليبي مع هذا التطور العسكري، أعلن الجيش نجاحه في استهداف قاعدة عسكرية تركية داخل طرابلس، مما يؤكد أن الخرق التركي ذهب إلى ما هو أكثر من مجرد انتهاك لقرارات مجلس الأمن الدولي، إلى تأسيس قواعد أجنبية وانتهاك صريح لسيادة الأراضي الليبية.

تزامن الكشف عن القاعدة التركية في ليبيا، مع إعلان المجلس العسكري السوداني إلغاء الاتفاقيات التي أبرمها نظام البشير مع الرئيس رجب طيب أردوغان بشأن سواكن، هذا التزامن لم يأت من فراغ، بل من رغبة تركية جادة في التمسك بالوجود شرقي وشمالي إفريقيا، وأن الأتراك عازمون على المضي في مشروعهم العسكري إلى ما هو أبعد بكثير مما كان يعتقد في الأوساط السياسية.

تحاول تركيا من خلال نشر القواعد العسكرية في الخليج وإفريقيا، على أن تستهدف القوى العربية التقليدية، التي تمثل عمق الأمن القومي العربي وبشكل مباشر السعودية ومصر، فالأتراك الذين يحاولون أن يكونوا موجودين عسكرياً، في منطقة القرن الإفريقي ومازالوا يراهنون على إخوان اليمن، منحهم مدينة الحديدة على ساحل البحر الأحمر، بعد أن تم طردهم من مدينة عدن نهائياً، وفي هذه الثناء ترمي تركيا بثقلها في معركة طرابلس، لتثبيت وجودها العسكري شمالي إفريقيا.

قراءة هذا التوسع التركي بأنه سعي واضح ومكشوف لمزاحمة السعودية في الخليج ومصر في البحر الأحمر وشمالي إفريقيا، خاصة أن لتركيا نفوذ عسكري في جزيرة قبرص منذ منتصف السبعينيات، سيلقي بظلاله على أزمة تتصاعد بشأن التنقيب عن الغاز شرقي البحر المتوسط.

الأهداف التركية في الأراضي العربية، لم تعد مجرد أهداف، بل باتت أخطاراً حقيقية، فاحتلال تركيا للتراب العربي في قطر وعفرين السورية وأجزاء من شمالي العراق، ومحاولتها استعمار الأراضي الصومالية والجيبوتية والليبية، مهددات مباشرة للأمن العربي، لا تقل عن تلك المهددات الإيرانية التي عملت على خلخلة الأنظمة العربية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وهو ما يتطلب تحركاً عربياً يكسر المخالب التركية، وينهي أحلام الإمبراطورية التي تلاعب مخيلة أردوغان وأتباعه من الإخوان.