الوصف المناسب لأوضاعها هو المأزق؛ والمأزق حالٌ من التأزُّم حادّة تكون الخيارات فيها، لمن هو واقعٌ فيه، متكافئةَ السوء بحيث لا تترك كبيرَ مجالٍ لمن يختار بينها أو يرجّح واحدَها على الآخر.

لا بدّ من القول، أيضًا، إنّ استعصاء علاج ما بالمعارضات من أعطابٍ بنيويّة يعود، في جزءٍ كبيرٍ منه، إلى المعارضات نفسها التي ما بذلت أيَّ جَهْدٍ يذكر – في العقود الماضية – لمواجهة مشكلاتها الذاتيّة العميقة، من طريق بحث جاد وصادق في أسبابها، قصد تبيُّن السّبُل الكفيلة بمعالجتها. يكفي، مثلاً، أنّ معظم المعارضات تلك – إن لم يكن جميعُها – امتنع عن إجراء مراجعات فكريّة وسياسيّة لتجربته السابقة، واشتقاق الدروس منها، حتى حينما كانت الحاجة تدعوه إلى مثل تلك المراجعات.

في المقابل، استسهل أكثر تلك المعارضات نهج الصمت عن مشكلاته والتستّر عليها. وحتى حينما كان يُجْبَر على تفسير ما به من قصورٍ أو خَلَل في الأداء، وتراجُعٍ في القوّة والدور، كان يرتضي الركون إلى التفسير السّهل الذي يرفع عنه المسؤوليّة الذاتيّة، أعني ردّ أوضاعه إلى سياسات رسميّة تستهدفه وتبغي تحجيمه.

والحقّ أنّ تواتُر الظواهر السلبيّة الكابحة، في سياسات المعارضات العربيّة وفي جسمها التنظيميّ، كان كفيلاً – دائمًا – بأن يستنفر فيها حاسّة الانتباه والتدارك، أن يدعوها إلى الشروع في ورشة تفكيرٍ نقديّ عميق، لتشخيص مَواطن الخَلَل والعطب في عملها وجهازها، مقدّمةً نحو الشروع في برامجِ عملٍ إصلاحيّ لترميم المشروخ وسدّ المثقوب، في مرحلة أولى فوريّة، وصولاً إلى إعادة بناء الجهاز السياسيّ والنظام الرؤيويّ والبرنامجيّ لعملها الحَرَكيّ (في مرحلةٍ لاحقة من البرنامج الإصلاحيّ). ولقد يكفي سرْدٌ سريع لأنواع المشكلات التي استبدّت بتلك المعارضات، زمنًا طويلاً، ليبيّن إلى أيّ حدٍّ كانت مشكلاتُها حادّة ومصيريّة تتطلّب الاستعجال ولا تَقْبل الإرجاء، ولكي يبيّن – في الوقت عينِه – إلى أيّ حدٍّ أخطأتْ في المبادرة إلى العلاج فتركت مشكلاتها تستفحل وتَتَخَمّج إلى حيث انتهت بها إلى هذه الحال التي وصفناها بالمأزق.

النوع الأوّل من المشكلات إيديولوجيّ، أي يتعلّق بالرؤية والتصوّر العامّين للمجتمع والدولة ولمكانة عمل المعارضة السياسيّ من عملية الإصلاح أو التغيير التي انتدبت نفسَها للنهوض بأمرها.

والمشكلة كانت، وما بَرِحت، في الفجوة الرهيبة التي فصلت بين النموذج المجتمعيّ المُبْتَغى والمأمول وإمكانِه في الواقع الفعليّ، الأمر الذي بَدَا معه، باستمرار، وكأنّ العمل السياسيّ العربيّ المعارض يَعِدُ بما لا يَقْوى هو – أو غيرُه – على تحقيقه (الاشتراكيّة، النظام الديمقراطيّ على الطراز الغربيّ، الوحدة القوميّة، الدولة الإسلاميّة...).

وهو لا يَقْوى عليه ليس لأنّ الهدف مستحيل التحقّق، ولكن لأنّه بعيد الأمد وقد يحتاج الوصول إليه إلى أجيال. ولكنّ الأهمّ من ذلك أنّ الرؤية الإيديولوجيّة هذه لا تَقْبَل ترجمةً سياسيّةً برنامجيّة مباشرة، لأنّ السياسات والبرامج توضَع لما هو في حكم الممكنات الواقعيّة، أي الذي يَقْبَل التحقيق الفوريّ أو متوسّط المدى. هكذا بَدَتِ المعارضات تلهج بإيديولوجيّات غير قابلة للصّرف سياسيًّا.

النوع الثاني من المشكلات سياسيّ؛ ويتمثّل في سلوك سياسات خاطئة وغير محسوبة أكثرُها ناجمٌ من سوء التقدير. من ذلك، مثلاً، تأليب الجمهور الحزبيّ والقاعدة الاجتماعيّة المتعاطفة على الخصوم  السياسيّين بدلاً من إشاعةِ ثقافةٍ سياسيّة فيه وبناء وعيه السياسيّ. وذلك ما يفسّر لماذا تلجأ، في العادة، إلى لغة التحريض والتجييش في عملها التعبويّ، من دون الانتباه إلى أنّ هذه اللغة تُنْجب، في وعي الناس، قيم إنكار الآخر وإقصائه، بل تربّي على ثقافة العنف.

ومن ذلك، مثلا، إنتاج مواقف سياسيّة أكبر من حجمها، وأعلى من مستوى الممكن السياسيّ، لمجرّد المزايدة السياسيّة على النظام السياسيّ وعلى الخصوم الحزبيّين، من دون حسبان عواقب ذلك على صورتها أمام جمهورها حين لا تستطيع أن تبرهن له أنّ أداءَها وإنجازَها في مستوى خطابها ومواقفها.

وذلك ما يفسّر لماذا تُحجم عن الاعتراف بأيّ إنجاز تقوم به النخب الحاكمة، وتميل إلى تبخيسه والتشكيك في نواياه ظنًّا منها أنّها بذلك تحتفظ لنفسها بصورة القوّة الوحيدة التي تلتزم الموقف السياسيّ السليم.

أمّا النوع الثالث فتنظيميّ، والعلائم عليه والأَمارات وفيرةٌ بما يَفيض عن الحاجة إلى البيان: من ترهُّل المؤسّسات الحزبيّة وتَصَلُّب شرايينها التنظيميّة، نتيجةً لاحتكار مواقع المسؤولية فيها من قِبل نخبةٍ حزبيّةٍ ضيّقة؛ إلى غشيان البيروقراطيّة لعلاقاتها الداخليّة، وانعدام مظاهر الحياة الديمقراطيّة التداوليّة فيها، إلى المناخ القمعيّ الإقصائيّ فيها، الذي تَضيق قُواهُ (القيادة) بالرأي المخالف للخطّ الرسميّ الذي تضعه – هي – وحدها.

هذا ما يفسّر لماذا تعيش، اليوم، أزمةً حادّة في التمثيليّة، ولماذا تَضمُر قاعدتُها الاجتماعيّة ويَرْفَضُّ عنها الأتباع والمحازِبون. وهذا ما يفسّر، أيضًا، لماذا تتهالكُ أوضاعُها بما يحصل فيها من انشقاقات لمجموعات منها تتبرّم بأوضاع القمع فيها، فتلجأ بدورها إلى تأسيس تنظيمات جديدة سرعان ما يَعْرِض لها ما عَرَض لأمّهاتها قبلاً!.

إنّه المأزق بلا زيادةٍ ولا نقصان؛ المأزق الذي لا يتبيّن في حلكةِ أنفاقه ضوء.