يتساءل المؤرخ، أي مؤرخ لماذا لم يحقق العرب نهضتهم وقد بدأت بالفعل قبل نحو مائة عام، وها هم عود على بدء من جديد، ويكاد الأمير شكيب أرسلان يطلق صيحته الشهيرة مرة جديدة :"لماذا يتخلف المسلمون ويتقدم غيرهم"؟.

غالبا كان المفكر النهضوي العربي الكبير يقصد بالآخرين الغرب، وفي أيامه لم تكن الولايات المتحدة الأميركية قد أضحت مالئة الدنيا وشاغلة الناس على النحو الذي نراه حاليا، فقط كانت أوروبا هي الجار الأكبر الذي يغازل عقول وقلوب العرب والمسلمين، ما طرح سؤالا جوهريا :" هل يملك الغرب حجر الفلاسفة؟.

الشاهد أنه وبحسب الفليسوف الألماني "هالراد موللر" ، فإن الغرب لا يمتلك الوصفة التي تجيب عن تحديات العولمة، والتاريخ لم يصل إلى نهايته، كما أن البشرية لم تعثر على نقطة السكون في النظام الغربي، ومع ذلك فإن الغرب وإن كان لا يمتلك حجر الفلاسفة ، إلا أن مجتمعاته المفتوحة ونظمه السياسية تقدم عالميا الشروط المثلى للمضي قدما في البحث الخلاق، وتفتح دروب التلاقي الإنساني، وتتيح التجربة والحكم، وهذا ما يجعل مياه عالمه جارية ونظيفة وغير آسنة.

يتساءل المفكرون النهضويون في عالمنا العربي لماذا ينكسر التنوير ولا ينتصر، ولم تعقم الأمة عن أن تلد المزيد من المبدعين والمخترعين، من الفلاسفة المفكرين، من العلماء والرواد على الأرض وفي السماء؟.

الجواب لأننا ندور في شرنقة ثنائية اللغة والتوجه منذ أزمنة التحرر من الاستعمار العسكري الغربي في أوائل خمسينات القرن المنصرم، شرنقة لم تعرف سوى مشروعين تجاوزتهما الأيام، وإن كانا لا يزالان يتصارعان، وحينما تتصارع الأفيال تتكسر بل تموت الأعشاب على الأرض.

أما المشروع الأول فهو المشروع الديني الذي يحاول تسخير الإيمان والعقيدة لصالح العمل السياسي، وهو أمر لا يستقيم لأن الدين كليات ومطلقات، فيما السياسة أيديولوجيات ونسبيات، والمطلق لا يقبل فلسفة التفاوض، ولهذا يلفظ الآخر ويظن أنه مالك للحقيقة المطلقة، فيما النسبي يقبل الاختلاف، ويدعو إلى تصحيح المسارات والمساقات حال الانكسار أو الخطأ، الأمر الذي لا يمكن بحال من الأحوال أن يقبله المطلق، ولهذا أدخلنا هذا المشروع في متاهة لا فائدة منها ولا طائل من وراءها.

والمؤكد أن الكثير من الجماعات الدينية الأصولية تتخذ من هذا المشروع ستارا لأعمالها الظلامية، ويبقى السؤال إلى متى، والجواب أنه عندما ينتصر التنوير العربي على العصر الداعشي الظلامي الحالي، عندئذ سوف ينكشف جوهر الإسلام المطموس حاليا من قبل حركات التطرف والظلام، وسيتبين الفرز الكبير بين الجوهر والقشور، سيتبين لجميع الناس ذلك الفرق الكبير بين إسلام الأنوار وإسلام الإخوان.

أما المشروع الثاني فهو المشروع القومي، والذي رفع شعارات القومية العربية، وأدخل كثيرا من شعوب المنطقة في تشابكات سياسية لم تلبث أن تحول بعضها إلى عداءات مقيمة، وحروب.

ومن المؤلم أن شعارات هذا المشروع تجاوزت إمكانياته وقدراته. وقد راهن على ما هو أكبر وأقوى منه، ولهذا أعطى المبرر والذريعة لقوى إمبريالية بعينها أن تهاجمه معنويا وماديا ، ولتتحطم الأحلام العريضة التي بنتها الجماهير على رؤاه وأفكاره، وهو ما قاد شباب الأمة العربية إلى حالة أكثر إيلاما من حالات الانسداد التاريخي ومخاصمة المستقبل، وهجر الواقع.

وقد عبر الراحل الكبير الاستاذ محمد حسنين هيكل عما جرى لاحقا بأن حالة الهجرة العربية إلى الغرب أضحت هجرة مزدوجة، فقد هاجر الأغنياء والذين يمتلكون رؤوس الأموال إلى الغرب حيث فرص الحياة والعمل ومساحات الليبرالية باختلاف أطرافها وأطيافها ، فيما هاجر القسم الآخر إلى الله ، ومن هنا رأينا مشروعات الإسلامويين الجهادية والتكفيرية، إلى الحد الذي قاد إلى نشوء وارتقاء القاعدة ومن رحمها ولد تنظيم دولة الخلافة داعش.

هل المشهد إذن قدر منقوش على حجر، أي أنه ما فكاك من هذا المصير المؤلم بعد انكسار المشروعين، وأي طريق يمكن أن ينقذ العرب ويقودهم إلى ما يمكن أن نطلق عليه زمن اليقظة العربية الثانية؟.

أحد أهم المفكرين العرب المعاصرين الذين تناولوا في كتبهم وكتاباتهم أبعاد تلك الأزمة يأتي الدكتور "مروان المعشر" الأردني الجنسية، والذي يشغل منصب نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يقوم بالإشراف على الأبحاث في واشنطن وبيروت حول الشرق الأوسط، وقد عمل سفيرا للأردن في الولايات المتحدة، ووزيرا للخارجية، ونائبا لرئيس الوزراء الأردني.

في كتابه "اليقظة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية"، يتناول اضطرابات الآونة الأخيرة في المنطقة العربية في سياق الضغط التاريخي طويل الأمد لبناء مجتمعات تتجاوب مع توق المواطن العربي للحرية والفرص.

ما هو كعب اخيل عند الدكتور مروان المعشر؟ وبلغة أخرى المشروع الذي يتجاوز صدام المشروعين المتقدمين واللذين أخفقا في أن يقودا العرب بنوع خاص إلى بر الدولة الدولة الويستفالية الحديثة، تلك القادرة على النمو والرقي بشعوبها وتجاوز عثرات الماضي وكبوات الحاضر؟.

يلقي الدكتور المعشر بطرف عينه على الماضي ليوضح لنا وبشكل غير مباشر ما يود أن يقول، إذ يخبرنا أنه في عام 1939 قام مصري مسيحي من أصل لبناني يدعى "جورج انطونيوس "، بتأليف كتاب عنوانه " اليقظة العربية ".

وقام أنطونيوس وهو خريج جمعة كامبريدج ومقيم في القدس ويجسد إلى حد كبير التنوع الديني والثقافي والعرقي للعالم العربي، بتوثيق أول حقبة ليبرالية في العالم العربي المعاصر.

وقد تطورت هذه الظاهرة التي تكشفت ببطء طوال قرن من الزمن، من نهضة فكرية نخبوية إلى مقاومة سياسية، ومن ثم مسلحة على مستوى القاعدة الشعبية ضد العثمانيين، ومن ثم ضد الحكم الاستعماري الغربي.

غير أنه ومن أسف شديد وصل التقدم بها إلى طريق مسدود في منتصف القرن العشرين، وتم إجهاض وعدها الأول عندما تم استبدال المستعمر الأجنبي بقيادات أحادية الرأي اهتمت بالانتصار إلى أحد المشروعين المتقدمين، ونسيت أو تناست نجاحات المشروع الذي مكنها من الاستنارة والقفز على المستعمر الأجنبي.

ونجحت اليقظة العربية ونهضتها الأولى عبر عملية شاقة وشائكة في الوقت عينه تمثلت في محاولة بناء عالم عربي يؤمن بالتعددية والتسامح، وقد كانا مدخلان رئيسيان لفكر المواطنة قبل أن يتم الحدث عنها في بقية بلاد العالم.

علامة استفهام مهمة وجوهرية: "هل هناك من يريد بالفعل إفشال أي تجربة نهضوية عربية ثانية كما فعلوا في المرة السابقة"؟

الشاهد أننا وإن كنا لا نؤمن بالفكر المطلق لحديث المؤامرة، إلا أنه من غير العقلاني اعتبار التاريخ فردوسا للأبرار والأطهار، وإن كان الأمر لا يمضي على مثل هذا النحو من التبسيط ، بمعنى القول إن هناك من لا شغل أو شاغل له غير التربص بالعرب ليل نهار، إلا أنه في الوقت عينه تظل هناك استراتيجيات دولية تتقاطع مع مصالح العرب في الشرق والغرب، وهذا أمر طبيعي في إطار النظم الدولية والسياسات الكونية.

ولعل المهارة هنا أنه لا يجب أن تعطي خصمك الأدوات التي يحاربك بها، أو تفتح له ثقوب في جدارك الوطني، لكنك حال تفعل فأنت كما يقول المفكر الجزائري الكبير " مالك بن نبي" تضحى قابلا للاستعمار، والذي لم يعد استعمارا عسكريا، كما كان الحال قبل مائة عام، بل هناك اليوم عشرات الأنواع من الاستعمار تبدأ من عند الثقافي ، وتمر بالاقتصادي، وصولا إلى اختراق الأدمغة وغسيلها، وصولا إلى حالات الانثقاف الكلي ودخول ثقافات على ثقافات أخرى وتغيير جذور وتوجهات، الأمر الذي يصيب باضطرابات نفسيه وأدبية تؤدي إلى حالة التشارع والتصارع الحادثة اليوم.

وقد لا يكون هناك مفر أو مهرب من عالم عربي ينشد يقظة ثانية من القبول بفكر التعددية والمواطنة ، بغض النظر عن أي شروط. وعند الدكتور المعشر، فإن هناك حاجة لقوى ثالثة بجانب القوى النخبوية القومية واصحاب التيارات الاسلاموية ، تتمثل في جيل جديد من الشباب الذين حاولوا بنوايا صادقة تغيير وجه العالم العربي ملتزمين أكثر بمبادئ الديمقراطية.

ولكي يتسنى لهذا الجيل أن يصيب نجاحا بعينه، ولكي تكتمل لليقظة العربية تجربتها الثانية وتكمل ما أخفقت فيه التجربة الأولى، لابد لها من أن تكون تأكيدا للقيم العالمية : الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان.

ولا يمكن أن يتم فرض هذه المثل العليا على منطقة من خارجها، ولكن يمكن أن يتم تشجيعها من أجل أن تنمو، على الرغم من أنها سوف تطلب صبرا وفهما دقيقا للظروف الفعلية ولأنواع الإجراءات التي من المرجح أن تكون فعالة على حد سواء.

هل العالم العربي وعن حق في معركة وفي ثورة مستمرة؟

قطعا لا نريد معارك دموية، ولا صراعات مسلحة تؤدي إلى احتراب أهلي وطائفي ، فهذه خسائرها غير محدودة في الحال أو الاستقبال، بل الحاجة إلى معارك من أجل التعددية وقبول الآخر، وأن لا تكون المسألة مجرد شعارات رنانة، أو عناوين عريضة في الصحف ونشرات الأخبار، معركة تستدعي فيها الأمة رصيدها ومعينها الحضاري التاريخي الخلاق، فقد كتب العرب تاريخهم بماء الذهب في فترات المد الحضاري ، عندما كان بلاط هارون الرشيد يعج بالمترجمين والمؤلفين من كل الملل والنحل، ومن كافة الأجناس والأعراق، وقد كان الولاء الوحيد لمشروع الحضارة التي تحتوي الجميع من دون تمييز.

فقط عندما تقوم المجتمعات وزعماؤها المنتخبون بصدق باعتماد التسامح والتنوع والتداول السلمي للسلطة والنمو الاقتصادي الشامل ، ساعتها يمكن لعالم عربي جديد أن يعرف معنى النهضة الحقيقية وأن يقفز إلى مراتب الأمم الحضارية، تلك التي يبقى الإنسان فيها هو القضية وهو الحل، وما هذا على الله بعزيز.