هل يجهلون الاخطار المحدقة بنظامهم وبلدهم من جراء هذا النهج؟ أم أنهم يعتقدون بأنهم مسددون غيبيا وأنهم سوف ينتصرون على العالم أجمع وأن الله سيقف معهم ضد عباده الآخرين؟.

تابعت خطابات المرشد الإيراني علي خامنئي مذ كان إمام جمعة طهران عام 1979، وبعد مرور أربعين عاما على الثورة مازال خطابه كما كان، متشددا ومتشنجا ومتعاليا وعدائيا، وكأن على العالم أن ينصاع لآرائه الطوباوية وسياساته الخرقاء، التي أضرت بإيران ودول المنطقة والعالم. لو كان خامنئي ومعه أعضاء (مؤسسته) الثيوقراطية قد قرأوا التأريخ الحديث جيدا، أو فهموا السياسة الدولية، لربما كان لهم رأي آخر، ولاتبعوا سياسات مختلفة.

عندما تسببت ألمانيا في اندلاع حربين عالميتين مدمرتين، قررت دول العالم الكبرى، الغربية والشرقية على حد سواء، تقسيم المانيا وإضعافها كي تهدأ أوروبا من الحروب. ولم تعد ألمانيا موحدة إلا بعد 45 عاما من التقسيم، وقد سمحت الدول الغربية بوحدة ألمانيا بعد أن تيقنت بأنها لم تعد تهدد السلم العالمي ولن تدخل في حرب جديدة لأنها أصبحت جزءا من الاتحاد الأوروبي الذي هو وحدة اقتصادية سياسية تهدف إلى إرساء السلام والرخاء في أوروبا.

وعندما شعر قادة اليابان بأنهم أقوياء وحاولوا توسيع امبراطوريتهم بضم كوريا إليها عام 1910 ثم شنوا الحروب على الدول المجاورة، ومنها الصين، اتحدت دول العالم الكبرى عليها وهزمتها وانتزعت كوريا منها. وربما ينسى الإيرانيون أن الدول الكبرى قررت مصير كوريا في مؤتمر طهران في نوفمبر عام 1943 عندما اقترح الرئيس الأمريكي روزفلت أن تدار كوريا عبر (أمناء) تعيِّنهم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وقد وافق ستالين، وكان حينها مع روزفلت في طهران، على هذا المقترح شريطة أن تكون فترة إدارة (الأمناء) قصيرة. وعندما لم تنجح فكرة حكم الأمناء، قررت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تقسيم كوريا وتقاسم النفوذ فيها بينهما، فأصبح الجنوب بإدارة الأولى والشمال بإدارة الثانية، وبقيت كوريا مقسمة حتى يومنا هذا دون أن يلوح في الأفق أي أمل على إعادة توحيدها. وحتى العملاق الصيني مازال مقسما، فتايوان دولة مستقلة فعليا، وإن لم تكن كذلك رسميا، وهي دولة صناعية قوية ولا تجرؤ الصين على ضمها إليها بالقوة أو التدخل في شؤونها على رغم أن كلا من تايوان (الصين الوطنية سابقا) والصين الشعبية ترغبان بالوحدة وتؤمنان بأن الصين دولة واحدة وغير قابلة للتقسيم لكنهما تختلفان على طريقة إدارتها.

وكي لا نذهب بعيدا في أعماق التأريخ، فإن تشدد وتعنت قادة صربيا في التسعينيات قد قاد إلى تقسيم يوغسلافيا، واستقلال كرواتيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو والجبل الأسود عنها، بينما سيق الزعيمُ الصربي المتشدد، سلوبودان ميلوشوفتش، إلى المحكمة الدولية ومات أثناء المحاكمة. وعندما مارس النظام (الإسلامي) في السودان، حليف إيران سابقا، بقيادة المشير البشير، سياسات تعسفية داخلية وتدخلات في شؤون الدول الأخرى واستضاف بن لادن وكارلوس وتعاون مع منظمات إرهابية، فإن تشدده هذا قد قاد إلى إضعاف السودان وتقسيمه وقيام دولة جنوب السودان، بينما أصبح رئيسه وأركان نظامه ملاحقين قضائيا.

إيران دولة كبيرة وفيها خمس قوميات هي الفارسية والتركية والعربية والكردية والبلوشية، وفيها أديان ومذاهب عديدة، المسلمون، السنة والشيعة، والبهائيون والزرادشتيون والمسيحيون واليهود والصابئة، لكنها بقيت دولة واحدة لأن سكانها المتحضرين اقتنعوا بأن الأفضل لهم أن يبقوا موحدين، فتكونت بمرور الزمن هوية وطنية إيرانية قوية حافظت على تماسك الدولة الإيرانية حتى الآن. غير أن هذا التماسك لن يصمد بوجه السياسات التعسفية الإيرانية وتدخلاتها المستمرة في شؤون الدول الأخرى، والتي تأتي دائما على حساب مصلحة إيران واستقرارها وتقدمها، ولن يصمد التماسك بوجه الصعوبات الاقتصادية الخانقة التي جلبها نظامها السياسي على السكان، إذ يتعرض الشعب الإيراني الآن إلى أقسى عقوبات فُرضت على دولة في التأريخ الحديث، وكل ذلك بسبب سعيها لأن تصبح قوة عالمية على حساب الدول الأخرى، في وقت تعدد فيه العمالقة واصبحت القوة تقاس بالتطور الاقتصادي والعلمي وليس عبر التدخل العسكري وخلق بؤر قلقة ودعم مليشيات مسلحة في بلدان أخرى.

هناك اليوم عمالقة كثر في العالم، فمن الصين والهند والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي إلى البرازيل واليابان واستراليا، وهناك دول أخرى ناهضة وفي طور الصعود منها تركيا وماليزيا وإندونيسيا وباكستان وجنوب أفريقيا. ويمكن إيران أن تنضم إلى الدول العملاقة مستقبلا لو أنها غيرت من نهجها واستثمرت أموالها وجهودها في التطوير وتحسين المستوى المعاشي لشعبها وتعاونت مع الدول الأخرى في مجالات العلوم والصناعة ومكافحة الجريمة. لكنها اختارت أن تلعب دورا سلبيا بسبب اتباع نظامها أيديولوجية بالية لا تمت إلى العالم المعاصر بصلة.

إن بقيت إيران تتبع هذه السياسات التي الحقت أضرارا بدول المنطقة وباقي دول العالم فلا شك أن الدول الكبرى، التي تمتلك القوة الاقتصادية والعسكرية، ستجد حلا لها ومثل هذا الحل سيجعلها دولة ضعيفة تابعة وسوف تنتظر عقودا قبل أن تتعافى أو تعود موحدة وقوية وقد لا تعود. هناك الآن في إيران مجاميع سكانية مهمشة ومضطهدة لأسباب قومية أو دينية او اقتصادية أو سياسية، كالعرب والكرد والبلوش، بالإضافة إلى ملايين الإيرانيين الفرس والأتراك غير المؤمنين بولاية الفقيه، ومثل هذه المجاميع لن تسكت دوما على التهميش خصوصا مع وجود دعم عالمي لها. فإن نهضت هذه المجاميع السكانية، وهي كثيرة وواسعة الإنتشار، وطالبت بحقوقها فإن إيران سوف تنشغل بمشاكلها الداخلية ولن تستطيع أن تتقدم أو تحقق طموح قادتها بأن تكون دولة عظمى. وهذا خطر قائم ومحتمل، فلماذا يتجاهله قادة إيران؟.

ولا تحتاج دول العالم في الحقيقة لأن تفعل شيئا محددا ضد إيران كي تضعفها وتدرأ خطرها، فالمقاطعة الاقتصادية تكفي. النظام المالي العالمي تسيطر عليه الولايات المتحدة ولا يمكن أي دولة، بما فيها الدول العملاقة الأخرى مثل الصين والهند وروسيا وألمانيا وفرنسا، أن تعمل دون الاستعانة بالنظام المالي الأمريكي. النظام المالي الأوروبي لم يتطور بعد، ولن يتطور ليصبح منافسا للنظام المالي الأمريكي، حسب خبراء أوروبيين، إلا بحلول العام 2050 أو بعده. إذاً، على قادة إيران أن يغيروا من نهجهم الحالي قبل أن تحل الكارثة ببلدهم.

ما تحتاج إيران أن تفعله، كي ترضي دول العالم وشعبها، ليس صعبا، بل هو في غاية السهولة، ألا وهو التوقف عن التدخل في شؤون الدول الاخرى، وبالتحديد التوقف عن دعم الجماعات المسلحة، وترك شعوب المنطقة تقرر مصيرها بنفسها بعيدا عن التدخلات الخارجية.

ما الذي تحصل عليه إيران من دعم المليشيات المسلحة في العراق واليمن ولبنان وسوريا؟ وأين هي المصلحة الوطنية الإيرانية في ذلك؟ هل يعتقد قادة إيران أن العراقيين سعداء بوجود مليشيات مدعومة إيرانيا ترهب السكان وتقتل المحتجين والمثقفين والناشطين وتعبث بالبلد دون وازع أو رادع؟ هل يعلم قادة إيران أنهم يخلقون لهم أعداء جددا كل يوم بين العراقيين بسبب دعمهم لجماعات تمارس السرقة والقتل والإرهاب ضد الناس الأبرياء؟ هل يعلمون كم عراقي أصبح يكره إيران بسبب قتل مليشياتها كامل شياع وعلاء مشذوب وسارة فارس وسعاد العلي ونشطاء آخرين؟ هل يعتقد قادة إيران بأن مثل هذه الأفعال قابلة للاستمرار وأن العراقيين سيسكتون عليها إلى أبد الدهر؟ إن كانوا حقا يصدقون بهذا فإنهم يعيشون في عالم آخر. وهاهم العراقيون قد انتفضوا على الفساد والفشل ولن يخضعوا للإرهاب ولن يقبلوا بالوعود الكاذبة. اللعب على الوتر الطائفي لم يعد مجديا، فالعراقيون لهم هوية وطنية مختلفة ولن يصطفوا طائفيا كما يتمنى قادة إيران. العراق بُني على التنوع والتعايش منذ القدم ولن يتغير.  

النظام الإيراني يحتاج لأن يتخلص من عقدة التفوق المهيمنة على عقول قادته، فإيران، على رغم اتساعها وكثرة عدد سكانها وعمق تأريخها وعراقة حضارتها، فإنها ما تزال دولة من دول العالم الثالث، بسبب سياسات قادتها الخاطئة، وهي تحتاج إلى عقود طويلة وجهود حثيثة كي تتمكن من أن تلحق بتركيا والبرازيل وكوريا، مثلا، وربما تحتاج إلى قرون كي تلحق بالدول المتقدمة الأخرى. التجييش والعسكرة وخلق الأزمات لن تخلق دولة عظمى وستكون نتيجتُها الضعف والتقسيم والتراجع. فهل يتعظ الولي الفقيه وأنصارُه قبل فوات الأوان؟ مفكرو إيران وسياسيوها العقلانيون، الحريصون على وحدة إيران وتماسك شعبها، مدعوون للنظر بالأخطار التي تواجه بلدهم وإيجاد الحلول لها قبل أن تنزلق الأمور إلى منحدر الهاوية.