وينبغي لمثل هذا الاجتهاد في مقاربة تلك المسألة أن لا يأخُذه تردُّدٌ في الإقدام بدعوى الخوف من أن تكون المطالب هذه مقدّمةً لأخرى أكبر، وأن تكون إجابتُها سابقةً يُبْنى عليها في اللاحق، ممّا قد يفتح الباب أمام خطر التقسيم أو الانفصال عند لحظةٍ من استفحال أمْرِ الاشتغال السياسيّ بلعبة الهويّات.

ومع أنّ الخوف مشروع، ويستند إلى سوابقَ كانت مطالبُ الجماعات الأقواميّة فيها متواضعة واجتماعيّة المضمون، قبل أن يُبْدَأ في تسييسها والذهاب بها بعيدا إلى حدود المطالبة بالحقّ في الانفصال، ومع أنّ هذه الهواجس استفحلت أكثر في حقبة العولمة هذه، التي اندفع فيها التلاعب بمسألة "الأقلّيات" وحقوقها، فسُخِّرت في لعبة الهيمنة على الدول الصغرى وفي مشاريع تفكيكها وإعادة تركيبها، إلاّ أنّ المصلحة تقضي بإنتاج حلّ ديمقراطي – وطنيّ لعقدة المطالبات الثقافية واللغويّة، تستوعب المشكلة في الداخل الاجتماعيّ، وتقطع الطريق على أيّ محاولات أجنبيّة في توظيفها ضدّ الدولة والكيان.

الحقوق الثقافيّة واللغويّة للجماعات الأقواميّة، داخل الدولة، لم تَعُد –اليوم– ممّا يمكن أن يُسْتَكْثَر عليها بدعوى أنّ روابط المواطنة لا تعترف بالتمايزات بين المواطنين بسبب العرق أو الأصول، بل هي اليوم في صلب منظومة حقوق المواطنة.

الدولة الحديثة، في هذه المحطة الجديدة من تطوّرها، التي ابتدأت منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، وخاصّةً منذ صدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة (1948)، تَلْحظ مستويَيْن في حقوق المواطنة داخلها؛ مستوى أفقيّ عامّ عابر للطبقات والجماعات الاجتماعيّة المختلفة هو مستوى المشتَرَك العامّ: الحقوق المدنيّة والسياسيّة للمواطنين كافّة بمعزل عن اختلافاتهم في الدين والعِرق والأصول؛ ثم مستوًى عاموديّ تتكوّن في امتداده حقوق خاصّة بكلّ جماعة متمايزة ثقافيًّا ولغويًّا عن الجماعة الكبرى داخل الدولة.

وبمثل ما تقارِب به الدولةُ الحقوقَ العامّة الجامعة للشعب رُمَّةً، تقارِب الحقوقَ الخاصّة بكلّ جماعةٍ ثقافيّة وتستدمجها في النظام القانونيّ للدولة. ولكن بينما يشترك المواطنون جميعًا في حقوق سياسيّة عامّة؛ وبينما تكون الحقوق السياسيّة لأفراد الجماعات الأقواميّة هي عينُها حقوق سائر أفراد الجماعة الوطنيّة، تنفرد الجماعات الفرعيّة بحيازة حقوق خاصّة بها كجماعات  في تثمير إرثها الثقافيّ ولغتها – يُعْتَرف لها بها – فيما لا تسلّم لها الدولة  بحقوقٍ سياسيّة خاصّة غير تلك الحقوق العامّة التي تتمتّع بها مع سائر قوى الشعب.

بهذه الطريقة تجمع الدولةُ الحديثة، في حقبة حقوق الإنسان، بين سلوكٍ ديمقراطيّ يجيب مطالب المجتمع –عامّها والخاص– وينتصف لحقوقه من غير تحيُّف، وسلوك وطنيّ يحرص على وضع وحدة المجتمع والدولة في صلب الاهتمام، ويمنع من أيّ مساسٍ بها باسم حقوق خاصّةٍ مهضومة.

وما أغنانا عن القول إنّ الطريقة هذه وحدها التي جلبت الاستقرار لدول الغرب، وزوّدت مجتمعاته بالمِنْعة الذاتيّة ضدّ التذرُّر والتشظيّ والانقسام.

لقد تفادت بها مغبَّة خروج المطالب الخاصّة عن أطرها الديمقراطية الموضعيّة إلى حيث تصير مطالب عليا غيرَ قابلة للتحقيق إلاّ بإيذاء وحدة الوطن والدولة.

والحقّ أنّه من الحكمة أن تسلك الدول هذا المسلك تجاه مجتمعاتها المتعدّدة التكوين الأقواميّ، لأنّه المسلك الوحيد الذي يدرأ عنها مخاطر التمزيق.

ولقد نبّهتٌ، في دراسةٍ لي قبل خمسة وعشرين عامًا، إلى الحاجة إلى استثمار الزمن والجَهد في مواجهة مطالب الجماعات الأقواميّة، والجواب عنها جوابًا موضعيًّا بما هي مطالب ديمقراطيّة، لئلاّ –وقبل أن– يستفحل أمرُها، بالصدّ والرفض، فتتحوّل إلى مطالب وطنيّة: تقرير المصير، الانفصال، الحكم الذاتيّ، اقتسام السلطة على مقتضى الحصص...إلخ.

وكم من دولةٍ تلكّأت في التجاوب مع مطالب كانت ديمقراطيّةَ المنشإ، فوجدت نفسَها – على غير توقّع – أمام انقلابها – إلى مطالب وطنيّة؛ وكان عليها، في النهايةـ أن تدفع الثمن الفادح من صيرورة المسألة الديمقراطيّة مسألةً وطنيّة!.

في مجتمعاتنا العربيّة جماعات أقواميّة تشترك مع الجماعة العربيّة الكبرى في الانتماء إلى الوطن والدولة، في حقوق المواطَنة العامّة، مثلما تجمعها بها روابط الانتماء التاريخيّ والدينيّ المشترك، لكنّها تتميّز بشخصيّتها اللغويّة الخاصّة وموروثها الثقافيّ.

ولها لذلك السبب، مطالب مشروعة في الاعتراف السياسيّ والدستوريّ بلغاتها وإرثها الثقافيّ. بعض الدول العربيّة أجاب تلك المطالب كلاًّ، وبعضُها جزءًا، وبعضٌ ثالث ما زال متردّدًا، حتى الآن، وخائفًا من أن تزِلّ به قَدَمُه إلى المتاهة.

علينا أن ندرِك أنّ المسألة حسّاسة جدًّا، في الظرفيّة العالميّة الجاريّة، وأنّ المطالب هذه لم يعد يحملُها أهلُها فقط، بل بات لها حامل سياسيّ خارجيّ يسخّرها لمصلحته، باسم القانون الدوليّ وحقوق الإنسان، ويستخدمها ضدّ مجتمعاتنا ودولنا ووحدتها.

وأقرب سبيلٍ إلى سحب الذرائع منه، واستيعاب مشكلة تلك المطالب و، بالتالي، تحصين الأوطان ممّا يتهدّدها من زعزعةٍ وتمزيق، هو إجابة تلك المطالب من طريق تحقيقها وترسيمها. وفي ذلك، أيضًا، ما يفتح الباب أمام تحويل التعدّد والتنوّع إلى عاملِ غنًى وإخصاب ثقافيّيْن بدلاً من صيرورتهما مبدأً لتوسيغ طلب سياسي يهدد وحدة الوطن.