ماذا تريد تركيا اليوم؟، هل هي فعلاً تُريد محاربة الإرهاب؟ أم أن أطماعها في الأراضي السورية منذ أيام الاحتلال العثماني وقضم لواء إسكندرون السوري ولليوم ما زالت قائمة؟ أم تراها تبحث عن الخلاص مما تصفه بـ ”الخطر الكردي على الحدود“؟.

تركيا تحدثت عن عمل عسكري، يهدف لتطهير شمالي سوريا من الإرهاب، وإنشاء منطقة آمنة، تسمح بعودة اللاجئين السوريين لديها إلى وطنهم، بينما قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إن الحرب السورية ليست حرب بلاده.

ليست مفارقة أن تُعلن أميركا إعادة انتشارها عسكرياً بعيداً عن شمالي سوريا، فتشن تركيا، في أقل من 72 ساعة، عدواناً على تلك الأرض العربية تحت مسمى ”نبع السلام“، فتقتل عشرات من المدنيين بينهم أطفال، بذريعة محاربة الإرهاب.

إن أقل ما يمكن توصيف الدور الأميركي به هو التواطؤ، حيث أعطت واشنطن للرئيس التركي رجب أردوغان ضوءاً أخضر صاحبته مباركة أوروبية موّهها الاتحاد الأوروبي باستنكارات كلامية.. ويراه البعض تخلياً من أميركا عن حليف من حلفائها مجدداً، وفي هذه الحالة، الأكراد، وهو أمر كانت قد حذّرت الحكومة السورية قبل سنوات مواطنيها الأكراد من مغبة حصوله.

وهنا لا يمكنني إلّا أن أشير إلى مدى سخافة التسمية التركية، التي تستخدم كلمة السلام في شنّها حرباً على أراضي دولة ثانية لإبادة الأكراد فيها. أي نوع من السلام هذا، الذي تقصف فيه الطائرات التركي سد المنصورة، قرب مدينة المالكية بريف الحسكة، والذي يوفر مياه الشرب لمليوني شخص، بحسب التلفزيون السوري؟.

فحجة تركيا بأنها تحارب ميليشيات إرهابية، مضحكة، خاصة أنها فتحت المجال لكل المقاتلين والإرهابيين، بالمرور عبر حدودها إلى سوريا، على مدى السنوات التسع الماضية. وهي التي كانت تساعد داعش عبر شراء النفط السوري المسروق منه، وكلّنا يذكر الصور الجوّية الروسية لطوابير شاحنات داعش المحملة بالنفط التي كانت تدخل تركيا عبر الحدود.

يجب لا ننسى أن أول خرق للسيادة السورية، في بدايات الأحداث بسوريا كان عبر طائرتين حربيتين تركيتين أسقطت سوريا إحداهما فوق البحر قُبالة الساحل السوري.

إنّ أقل ما يمكن توصيف العدوان التركي هو أنه ”خرق سافر“ لكل القوانين الدولية، خلافاً لما تحجج به رئيس الوزراء التركي، من أن هذه العملية العسكرية، متوافقة مع القوانين الدولية.

فلا يوجد قانون دولي واحد من شأنه أن يسمح لدولة بالاعتداء على أراضي دولة أخرى، وبشكل أحادي، ومن دون موافقة الأمم المتحدة ولا تدخلها تحت الفصل السابع.

المستنقع الكردي

ومن أبرز تبعات هذا العدوان، هو ما غاب عن بال أردوغان، الذي يظن أن إعلان حرب مفتوحة ضد الأكراد سيصب في صالحه.
فحاكم تركيا، الذي يصفه خصومه بالغرور والديكتاتورية، جرّ بلاده نحو مستنقع وحل عبر الحدود، سيغرق فيه جنوده، في حال لم يتم وقف هذا الانتهاك.

وبحسب الدلائل التاريخية، فإن الأكراد لا يرون حرجاً في نقل المعركة للداخل التركي. فهل تُشكّل خطوة أردوغان التي تهدد أمن واستقرار المنطقة، تحريكاً لعش الدبابير ودعوة مفتوحة لعمليات كردية مضادة داخل المدن التركية؟.

وبسبب امتدادهم التاريخي داخل الأراضي التركية، فإن هذا العدوان التركي على أكراد سوريا، والمحاولات التركية لإنشاء منطقة آمنة تتراوح بين 15 و65 كيلومتراً، بحسب بعض وسائل الإعلام التركية، من شأنها الدفع بأكراد الداخل للقيام بعمليات، كتلك التي شهدتها تركيا منذ عقود. يُذكر أن أردوغان كان قد دعا لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية بعمق 30 كلم.

المقلق في الأمر أنّ التصرف التركي، المنافي للقوانين والمواثيق الدولية، يسمح بزعزعة أمن المنطقة كلّها إن استمر. فالامتداد الكردي في  دول الجوار ومنها العراق، يسمح بسحب تلك الدول وحلفائها نحو صراعات مسلحة هم في غنى عنها.

الالتفاف الأميركي

في المقابل، وبمجرد اجتياح أردوغان للأراضي السورية، سارع ترامب إلى التلويح بموافقته على إمكانية فرض عقوبات على تركيا وضرب اقتصادها. وهو أمر يعيد للأذهان تصرفاً أميركياً مشابهاً.

وهذا يستتبع السؤال الأهم: هل انتظرت أميركا خطوة أنقرة باجتياح شمالي سوريا ومهاجمة الأكراد، لتُعيد ضرب أردوغان وتركيا، كما فعلت بصدّام حسين، الرئيس العراقي الراحل في تسعينات القرن الماضي؟ أم أنّها تعيد خلط أوراق الضغط في سوريا والمنطقة، والتي تحمل جزءاً منها روسيا وإيران؟.

ولمن لا يذكُر أحداث أوائل التسعينات، فقد استعملت أميركا ذريعة اجتياح العراق للكويت، بعدما كانت قد ألمحت للعراق أنها لن تتدخل في المنطقة، لكي تُحكم قبضتها على العراق، عبر إنهاكه بسلسلة عقوبات، تلتها حرب لم تنتهِ تداعياتها حتي اليوم.

فهل نرى مصير أردوغان كمصير صدّام؟

شخصياً أستبعد ذلك لعوامل عدة، أبرزها الدعم الروسي لأردوغان، وثانيها العلاقات الثنائية الطيبة بين نظام أردوغان وإسرائيل، والتعاون الوثيق بينهما على أصعدة عدة، أبرزها الصعيد العسكري.

وبالتالي، أرى أنّ الأميركيين يعتبرون أن مصلحتهم في الوقت الراهن، تكمن في إضعاف وتأديب أردوغان، الذي حاول غير مرة افتعال مشكلات لهم في المنطقة بعنجهيته وتطاولاته على حلفاء استراتيجيين لواشنطن. وفي تلك الخطوة تضرب الإدارة الأميركية عصفورين بحجر واحد: وقف أردوغان عن إزعاجه لهم، وتوفير إزعاج بديل لغريمتها روسيا، حليفة أردوغان.

وإزاء تهديدات ترمب بضرب الاقتصاد والعملة التركية، يطالعنا الموقف الروسي الذي جمع الأضداد. فروسيا حليفة لكل من سوريا وتركيا.

وكانت وزارة المال الروسية، قد سارعت، بُعيد تغريد ترمب عن قدرته على ضرب اقتصاد وعملة تركيا، بالإعلان عن توقيعها اتفاقية مع نظيرتها التركية، بشأن التسويات والمدفوعات بالعملات الوطنية، بعيداً عن الدولار، بهدف "توسيع وتنمية التعاون التجاري والاقتصادي متبادل المنفعة بين روسيا وتركيا".

فليس من مصلحة الروس أن يتم إضعاف كل حلفائها (سوريا وتركيا وإيران) في المنطقة.

ففي وقت تواجه فيه إيران بعبعها الاقتصادي الداخلي، حيث تنتشر موجات الاحتجاج على غلاء المعيشة والوضع الاقتصادي المتردي، وتعاني سوريا انقسامات وحرب منذ تسع سنوات، لم يتبقَ غير تركيا كحليف شبه فعّال، تستطيع استخدامه كورقة ضغط في صراعها مع الأميركيين. وهنا أود التذكير بأن الولايات المتحدة واجهت صعوبات بالنسبة لقاعدتها العسكرية في تركيا، إثر التقارب التركي الروسي منذ ثلاث سنوات ولليوم.

لكن مع الخطأ التركي باجتياح شمالي سوريا، بات الموضوع أصعب على الروس، ويهدد بانتشار رقعة العنف مجدداً، مما يضع المصالح الروسية العسكرية والتجارية في المنطقة في دائرة الخطر إن تمددت رقعة الأعمال العدائية. وربما هذا ما تعوّل عليه أميركا في الوقت الراهن.

عاب البعض على الرئيس الأميركي، أنه يريد إعادة جنوده لبلدهم، لأنه يقول إنه يؤمن بأنه ليس على الأميركي الدفاع عن أرض غيره ولا الانخراط في معارك الآخرين.

لكن لم يركز الكثيرون على أهم كلمة في التصريحات الأميركية المتتالية، التي لا تتكلم عن انسحاب كامل من سوريا ولا شمالها، بل عن إعادة انتشار في أماكن أخرى. وهذا يعني أنّ أميركا لن تترك الساحة خالية لروسيا وحلفائها بهذه السهولة.

قد يرى البعض أن كلام ترمب معاكس للإدارة الأميركية السابقة التي أسهمت في تأجيج الحرب عبر تسليح وتدريب ميليشيات سورية ضد الحكومة، وحاولت إقناع العالم وقتها بأن رحيل الأسد لن يتجاوز أسابيع أو شهرين بالكثير.

لكننا يجب ألا ننسى أن إعادة التموضع التكتيكية التي قام بها جنود العم سام، في ظل الإدارة الحالية، وانتشارهم خارج الشمال السوري، من دون الانسحاب من سوريا، هو الذي سمح باجتياح الأتراك لشمالي شرق سوريا.

ويجب ألا ننسى كذلك أن ترامب يتجه نحو انتخابات رئاسية، وبالتالي فمن مصلحته عدم خسارة المزيد من الجنود الأميركيين قبيل الانتخابات، لأن عودة جثة أي جندي ملفوفة بالعلم الأميركي، ستكلّفه نقاطاً غالية في السباق الرئاسي المقبل.