لا نغالي إن قلنا إن بوتن، وكما يرى فريق كبير من المراقبين الأمميين وليس الروس فقط، أقرب ما يكون خلال العقدين الماضيين اللذان أمضاهما كزعيم لبلاده، من القيصر الروسي الأشهر بطرس الأكبر، الذي كان حلمه الأشهر الوصول إلى المياه الدافئة على شاطئ البحر المتوسط، الأمر الذي تمكن منه بوتن قولا وفعلا.

غير أن علامة الاستفهام الحقيق بنا طرحها: عبر أي أدوات نجح بوتن في تحقيق حلم أسلافه القياصرة؟.

المثير جدا أن بوتن لم يسع إلى الشرق الأوسط غازيا أو محتلا، فقد أدرك دروس التاريخ وأيقن من إخفاقات التجارب السوفيتية التي باعدت بين بلاده وبين منطقة الخليج العربي من جهة، وكثير من دول الشرق الأوسط من ناحية ثانية، بل إن عزف الولايات المتحدة الأميركية طوال 4 عقود من الحرب الباردة كان على أوتار إشاعة الخوف والهلع في النفوس من وصول أساطيل الشيوعيين وأفكارهم إلى مياه الخليج الدافئة، ومن ثم تهديد منابع النفط في واحدة من أهم مصادرها اللوجستية.

نجح بوتين في تعميق علاقات شخصية وعلاقات دولة مع الإمارات، تشهد بها آفاق التعاون الثنائي في السنوات الأخيرة، الأمر الذي برهنت عليه المشاركة الإماراتية الواسعة والفاعلة في قمة "اقدر" التي استضافتها العاصمة الروسية موسكو في سبتمبر الماضي، وتمثلت بتواجد 12 مسؤولا بينهم 8 وزراء.

والشاهد أن الذين استعموا إلى الحوار الذي أجرته بعض محطات التلفزة العربية والروسية مع بوتن قبل الزيارة ببضعة أيام، أدركوا أن مستوى التنسيق بين أبوظبي وموسكو فاق تعبير الاستراتيجي.

يقول بوتن: "لن أكشف سرا كبيرا إذا قلت إننا على اتصال دائم مع قيادة دولة الإمارات، بل ونشأت لدينا تقاليد وممارسات معينة، فلدينا إمكانية ضبط ساعة نشاطنا على توقيت واحد في اتجاهات وقضايا مختلفة، ونقوم بذلك، لما له فائدة كبيرة للمنطقة بأسرها".

تحتاج العبارة المتقدمة تفكيكها، فما فيها من رموز وإشارات يحتاج عقليات تقدمية سياسية وأمنية على حد سواء، ذلك أن تعبير "ضبط ساعة نشاطنا"، هو في واقع الأمر تعبير لا يجيده سوى ضباط العمليات الاستخباراتية الكبار والميدانيين، ويهدف إلى تنسيق الجهود في الأوقات المهمة والحساسة، وبوتن لا ينسى هو نفسه، كما لا يغفل العالم من حوله، أنه ضابط استخبارات روسي سابق، وفاعل ميداني في ألمانيا سابقا، ويعلم أهمية الوقت بالنسبة للأمم والشعوب.

العبارة تعني ضمن أمور كثيرة، أن روسيا باتت لاعبا مؤثرا في رسم الخطوط وتشكيل الخيوط في منطقة الشرق الأوسط بنوع خاص، و يرجع الأمر حكما إلى مهارات القيصر، الذي تحول من دب ثقيل الوزن والحركة في زمن الاتحاد السوفيتي، إلى ثعلب رشيق يجيد التحرك على خارطة عالم مختل ويعاد تشكيله في أوقات صعبة.

على أن جزءا آخر من نجاحات القيصر تعود إلى أخطاء إدارات أميركية متعاقبة، لا سيما من عند إدارة بوش الابن، التي عظمت فكر القوة الصلبة دون أن تفسح مجالا لفضاءات القوة الذكية، إذ يصفها عالم السياسة الأمريكي الكبير  جيمس ناي بأنها "مزيج من القوة الصلبة والناعمة، وبدرجات تتسق مع تقديرات المواقف على الأرض"، مرورا بباراك أوباما الذي فضل القيادة من وراء الكواليس، مما ترك مربعات قوة ونفوذ مهمة وخطيرة استطاع الثعلب الروسي أن يلتقطها بذكاء ومهارة بالغة، وصولا إلى دونالد ترامب الذي يصف قائد قيادته المركزية الجنرال جوزيف فوتيل قراره الأخير بشان الانسحاب من سوريا بأنه قرار غير استراتيجي ولا أخلاقي.

من حديث بوتن، تتبين لنا الأهمية الاستراتيجية الخلاقة التي تمثلها الإمارات في منطقة مليئة بالرمال الساخنة والمتحركة، إذ تأتي كدولة فتية شابة، تقدر لأرجلها قبل الخطو موضعها، وتمضي في أطر منهجية وسياقات علمية نخبوية.

عطفا على ذلك، فإن الإمارات تمثل واحة خضراء من التسامح والتصالح الذي يلتقي مع ساعة موسكو اليوم، حيث باتت حاضنة لكل الأديان دون تمييز ولا عنصرية، ولهذا فإن قادة البلدين يسهل عليهما ضبط الساعات القيمة على الكثير جدا من الملفات الساخنة والملتهبة، في منطقة قابلة للاشتعال، بأكثر مما هي مشتعلة الآن بالفعل.

أفعل ما يمكن أن يزخم ويدعم العلاقة بين الإمارات وروسيا، هو التطلع إلى الأمام سويا عبر شراكات إنسانية خلاقة، شراكات مقدامة لا تخشى الغوص في أعماق البحار، ولا ارتياد الفضاء من أجل مستقبل أكثر إنسانوية، دون أياد مرتعشة غير قادرة على صناعة التاريخ، وهذا هو شان الكبار الذين يجيدون ضباط ساعاتهم تجاه الغد.