قرب حدود مصر الجنوبية، وعلى مساحة هائلة تبلغ نحو 150 ألف فدان، كان افتتاح القاعدة العسكرية المصرية الأحدث، قاعدة برنيس بشقيها البحري والبري، التي تأتي في سويداء القلب من المناورة المصرية الكبيرة "قادر 2020".

بداية، ما الذي يعنيه افتتاح مصر قاعدة عسكرية هي الأكبر في الشرق الأوسط وعلى ساحل البحر الأحمر؟

المؤكد أنها تأتي في سياق فلسفة القوات المسلحة المصرية برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي تراعي إنشاء قواعد عسكرية جديدة في إطار خطة التطوير والتحديث للقواعد المسلحة المصرية، التي لم تتسع مساحاتها الجغرافية في طول البلاد وعرضها ربما طوال 5 عقود خلت.

الإسقاط الكبير الذي ربما لم يلتفت يه كثير من الذين تابعوا مشهد افتتاح القاعدة الجديدة مهم وحيوي للغاية، فبرنيس هي "الربة المنقذة"، وللأمر قصة من أعماق التاريخ.

سميت تلك البقعة الجغرافية بهذا الاسم نسبة إلى زوجة أول ملك حكم مصر بعد الإسكندر الأكبر، وعرف باسم بطليموس الأول من مقدونيا، وكانت تسمى "برنيس"، وهي مقدونية وابنة أحد ملوك مقدونيا، وأصبحت برنيس إلهة للمصريين بعد موتها، وحملت اسم "الربة المنقذة".

كانت برنيس هي الممر الأصلي لطريق الأفيال العسكرية الذي ورد الرومان من خلاله الأفيال نحو أوربا، وعليه فإن من يملكها يملك الطريق نحو الشرق للجزيرة العربية، ويملك الشمال أيضا، ويستطيع أن يراقب الجنوب في العمق الإفريقي، إنها كنز جغرافي مصري دون أدنى شك، واختيار المكان ليس مصادفة قدرية أو موضوعية، بل رسالة وإنذار في الحال والاستقبال، لكل من تسول له نفسه العزف على أقدار المصريين.

تاريخيا خيل للبعض أن مصر تنام ليظن بها الموت، غير أنها حين تستيقظ من السبات تأمر الجبل أن ينتقل من موقعه وينطرح في اليم، فلا يملك سوى السمع والطاعة.

هذه هي مصر التي اعتقد الكارهون أنها قد استسلمت لدعاة الظلامية وأصحاب سر الإثم، فإذا بها تنطلق في دوائر استراتيجية من الشمال الغربي حيث قاعدة محمد نجيب التي تحمي حدود الوطن وثرواته في البحر المتوسط، إلى الجنوب الشرقي على ساحل البحر الأحمر الذي بدأ يجود بخيراته من الغاز والنفط، مما يجعل مصر فعلا لا قولا مركز طاقة محوريا وحيويا حول العالم.

الحق ضعيف من دون قوة تحميه، وقديما ذكر أوغسطينوس القديس والفيلسوف في مؤلفه الخالد "مدينة الله" DE CIVITATE DEI تعبيره الأشهر الذي بنيت عليه غالبية الاستراتيجيات العسكرية المحدثة: "إذا أردت السلم استعد للحرب" Si vis pacem para bellum، ومنه اشتق الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت عام 1905 مقولته الشهيرة: "تحدث بهدوء وامسك عصا غليظة.

لم يعد الأمر سرا، فنحن في عالم يموج بالتحركات الجيوبوليتيكية والمؤامرات الفوقية والتحتية، والرهان على الآخرين خسارة فادحة، فطرح القضايا المصيرية يبدأ من الذات وليس من الآخرين، وربما لأول مرة في تاريخها القديم والمعاصر تحاصر مصر من الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، وهي تدرك ذلك في إطار الصراع الدائر على خارطة الشطرنج الإدراكية المعاصرة.

من المبهج للعين في حفل الافتتاح كان حضور ومشاركة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، الذي كتب عبر "تويتر" يقول: "وصلت بحمد الله إلى محافظة البحر الأحمر في مصر لحضور افتتاح قاعدة برنيس العسكرية، بدعوة كريمة من الرئيس المصري السيسي. نشارك الشعب المصري الشقيق إنجازاته الوطنية والتنموية والحضارية"، ومضيفا أن "قوة مصر هي قوة للعرب جميعا".

طويلا، ومنذ ثورة 30 يونيو 2013، كانت ولا تزال الإمارات دعما وسندا حقيقيين للشعب المصري، وهو ما يتذكره المصريون في الحال، وما ستراجع الأجيال القادمة أوراقه بمودات في الاستقبال، لا سيما وهم سائرون معا على درب زايد الخير الذي أوصى أبناءه بمصر باعتبارها محمية إلهية، فهي أرض الكنانة والكيان الجيوسياسي الوحيد الذي ذكره المولى عز وجل في كل كتبه السماوية من التوراة والإنجيل والقرآن.

قاعدة بمثل هذه القوة البحرية والجوية على ساحل البحر الأحمر، تحمل رسائل عديدة للقاصي والداني، وتضيف للأمن القومي العربي وزنا وثقلا استراتيجيين في أزمنة القلاقل، التي معها نسترجع ما قاله ونستون تشرشل ذات مرة: "لن يقدر لك أن تفاوض إلى مدى أبعد مما تصل إليه نيران مدافعك".

السيسي ومحمد بن زايد مثالان لرجل الدولة الحق، الذي يتصرف وكأن أمته خالدة، في هذا السياق على رجل الدولة، وهذا ما يقوم به الزعيمان العربيان الكبيران، أن يختار أدوات تكتيكاته التي تستخلص السياسة من قبضة الماضي، ويعيد تنظيم الواقع، لا أن يقبل به أو يستسلم لحكاياته، فما من قدر منقوش على حجر.

أجمل في ما لحظات افتتاح قاعدة برنيس بحضور السيسي ومحمد بن زايد، الإيمان والاعتقاد بوجود زعامات عربية تفكر بعزم وتعمل بحزم كما قال الكواكبي رحمه الله، زعامات تدرك فكرة الوجود الدائم للمخاطر، وتنشد الإجراءات الوقائية إذا فشلت السياسات، قامات تناضل من أجل الاستقرار والاستمرار على الدوام.

من محمد نجيب غربا إلى برنيس شرقا، مصر لا تتنبأ بالمستقبل بل تصنعه، ولا تنتظر غودو بل تمضي في الطريق لملاقاته.