قبل الإجابة، ربما علينا العودة إلى الماضي القريب، وبالتحديد مع قيام ثورة يوليو 1952، التي لم تمانعها  واشنطن بحال من الأحوال لاسيما أنه كما كتبت وسائل الإعلام الأميركية وقتها عن القائمين بها أي الضباط الأحرار أنهم "غير منتمين إلى التيار الشيوعي"، وهذا أكثر ما كان يقلق واشنطن.

 مضت  العلاقات على نحو لا بأس به إلى أن جاءت إشكالية ما يعرف بصفقة الأسلحة التشيكية، ثم تعقد المشهد مع بناء السد العالي، ووصلت الأزمة عمقها في حرب الخامس من يونيو، حيث انقطعت العلاقات إلى ما بعد حرب السادس من أكتوبر 1973.

تاليا لعبت أميركا – كارتر دورا اعتبره الكثيرون إيجابيا على  صعيد الوساطة مع إسرائيل، ما مهد الطريق لاتفاقية كامب ديفيد عام 1979، وبذلك انفتحت مساقات إيجابية واسعة أمام العلاقات المصرية الأميركية، استمرت طوال عقود حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وقد لعبت مصر دورا كبيرا وواضحا، في تقديم العون اللوجستي لواشنطن، في العديد من الحروب التي خاضتها في الشرق الأدنى، سواء خلال حرب تحرير الكويت عام 1990 أو حرب أفغانستان، ناهيك عن الجهود المصرية المشتركة مع الولايات المتحدة لمحاربة الإرهاب، والتعاون الأمني والمعلوماتي النافع والناجح للبلدين.

على أن صفو هذه العلاقات، تعرض لشيء من الكدر بعد ثورة المصريين في 30 يونيو 2013  على جماعة الإخوان، ونظر الكثير من المصريين إلى  باراك أوباما، الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، نظرة فيها الشيء الوفير من اتهامات الخيانة والتآمر.

وتمثل التآمر في العلاقة، التي ربطت الرئيس الذي تجرأ على الأمل زيفا بجماعة الإخوان، وقد لعبت وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون تحديدا  دورا واضحا في هذا الإطار، ليضحيا، أي أوباما وكلينتون، من ألد الأعداء لمصر 30 يونيو، وبلغ بهما الأمر حد تجميد المعونات المقررة لمصر بحسب كامب ديفيد، لاسيما الشق العسكري منها، بغرض إضعاف المؤسسة العسكرية المصرية.

استطاعت الحكمة المصرية الساكنة تحت الجلد، منذ ستة آلاف سنة، أن تدير علاقاتها في الفترة المتبقية لأوباما من غير تصعيد ولا تصادم، وهذا أمر يحسب للدبلوماسية المصرية العريقة، وللقيادة السياسية المتمثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى أن رحل أوباما.

مبكرا جدا بدا أن هناك تفاعلا كيميائيا جيدا بين الرئيس السيسي والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016 دونالد ترامب، الذي ضحك له الحظ وخلف هيلاري كلينتون، وقد كان هناك أكثر من جامع بين الجانبين، لا سيما في ما يتعلق بمواجهة ومجابهة الإرهاب الأعمى، وانتشار الجماعات المتطرفة في العالم، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص.

نجحت مصر السيسي خلال أربع سنوات حكم الرئيس ترامب في ما يمكن أن نسميها " فلسفة ضبط المسافات"، بين مختلف عواصم العالم والقوى القطبية لاسيما واشنطن وموسكو، باريس ولندن، بكين وبرلين، الأمر الذي أكسب مصر من جديد ألقا واضحا في عيون العالم برمته، وليس شعبا دون غيره.

كما نجحت في إحداث توازنات استراتيجية لاحتياجاتها الخارجية بين كل القوى الدولية القائمة والقادمة، وكي لا  تجد نفسها مرة أخرى رهن قوة بعينها أو دولة بذاتها، وأفضل مثال في هذا السياق، يمكن أن نجده عبر التسليح المصري، وما تملكه القوات المسلحة المصرية بأفرعها المتعددة البحرية والبرية والجوية، من أجود وأحدث أنواع السلاح الروسي والأميركي، الفرنسي والصيني، البريطاني والألماني، وهو مثال نادر في الجيوش الحديثة، التي عادة  ما تكون عقيدتها القتالية مرتكزة على  نوع من أنواع السلاح الأحادي الجنسية.

على أن ما يدفع  العلاقات الأميركية المصرية في الآونة الأخيرة إلى آفاق ما بعد استراتيجية، موصول بالدور الذي لعبه الرئيس ترامب بشكل شخصي في ما يخص أزمة سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على نهر النيل.

يمثل السد نهضة صناعية بالنسبة للجانب الإثيوبي وهو حق لم تنكره عليها مصر، وأكده الرئيس السيسي في البرلمان الإثيوبي، إلا أن الأمر بالنسبة لمصر حياة ووجود.

كان من الواضح أن واشنطن – ترامب ألقت بثقلها في المفاوضات، وفي طريقها أواخر فبراير الجاري إلى أن تكون المضيف والشاهد على اتفاق يصون حق مصر في الحياة وحق إثيوبيا في النماء، من دون ضرر ولا ضرار، وهو أمر من دون مواراة ولا مدارة، كان يتعذر الوصول إليه من غير وساطة أميركية فاعلة وناجزة، الأمر الذي يمكن ترجمته في حالة من الرضى المصري الأهلي والحكومي، الشعبوي والنخبوي تجاه الولايات المتحدة.

مؤخرا أشار "ديفيد بولوك" الزميل الأقدم في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إلى استطلاع رأي موثوق جرى على عينة مصرية، إلى أن الشعب المصري يقدر نسبيا الولايات المتحدة، إذ يعتبر 54 في المئة أن العلاقات الجيدة مع واشنطن مهمة لمصر.

هل يعني ذلك أنه لا توجد نقاط افتراق في التوجهات السياسية المصرية الأميركية؟

بالقطع هذا هو ديدن الدبلوماسية العالمية، وفاق وافتراق، إنما المهارة تتجلى في عدم الوصول إلى الرؤية الحدية، وخيارات الألوان الضيقة بين ما هو أسود وأبيض، ونسيان عشرات الدرجات من الألوان الرمادية في المنتصف.

على سبيل المثال، هناك اختلاف في الرؤى بين واشنطن والقاهرة بشأن ملف السلام في الشرق الأوسط والخطة الأميركية، التي أعلنها الرئيس ترامب مؤخرا.

غير أن هذا الاختلاف لم يمنع مصر من أن تؤكد في البيان الرسمي، الذي صدر عنها، أهمية الجهود الأميركية وتثمنها، وإلى حتمية اتخاذ التفاوض والحوار طريقا مؤكدا  للتوصل إلى حل، وهنا غابت اللغة الأحادية الذهنية، واختفت لهجة الزاعقين ورايات الفاقعين.

ملف آخر مثير يتعلق بتسليح القوات الجوية المصرية، وما يدور حول رغبة مصر في الحصول على طائرات "سو 35" الروسية المتقدمة، ورفض واشنطن لهذا الطرح، وقد خفت الحديث مؤخرا، غير أنه من دون ادعاء بامتلاك معلومات خاصة، يدرك أي محلل سياسي موثوق أن هناك طرقا مختلفة لإنهاء الإشكال، بحلول ابتكارية إبداعية تفيد الطرفين.

عشية توقيع اتفاقية السلام في البيت الأبيض في 1979 مال رئيس الاستخبارات الأميركية وقتها  الأدميرال " تيرنر" على  الجالس بجواره الدكتور علي السمان، مستشار الرئيس السادات، قائلا: "لقد خسرنا مصر 25 عاما، ولن نسمح بأن نفقدها ثانية".

الخلاصة.. آفاق واسعة ورحبة تنتظر العلاقات المصرية الأميركية، في الحال والاستقبال.