هذه حقيقة قديمة قِدَم التاريخ السياسي نفسه، فمنذ "عصر الإمبراطورية" خلال فترة "الدولة الحديثة" في حقبة المصريين القدماء كانت القوى الكبرى في مصر جنوبًا والأناضول شمالًا تتصارع للسيطرة على بلاد الشام.. لأسباب كهذه قرأنا عن حملات أحمس وتحتمس الثالث ورمسيس الثاني، والتي بلغت بعضها جنوب الأناضول.

وفي عصر خلفاء الإسكندر المقدوني، كانت بلاد الشام ساحة تنافس ضارٍ بين القوتين البطلمية في مصر والسلوقية في آسيا الصغرى، وكذلك في العصر التالي بين الرومان ثم خلفائهم البيزنطيين من جانب والفُرس من جانب آخر.

وخلال فترة الحضارة العربية الإسلامية، أدرك ورثة الإمبراطوريات سالفة الذِكر قيمة الشام، فتنافس عليه كل من الطولونيين في مصر والحمدانيين والعباسيين في العراق، ثم تقاتل عليه كل من العباسيين والفاطميين، وجاءت الدولة الزنكية التي قامت في حلب والموصل، فتمددت في الشام وأسقطت الدولة الفاطمية في القاهرة بأيدي آل أيوب، الذين أسس رائدهم صلاح الدين الأيوبي مُلكهم حتى ورثه منهم المماليك، الذين شملت مملكتهم كلا من مصر (الديار المصرية) والشام (الديار الشامية)، إضافة للحجاز وقبرص وجنوب شرقيّ الأناضول.

كان المماليك يدركون حقيقة معادلة أن شمالي سوريا، الذي يبدأ من حلب- يؤدي للشام كله وأن الشام يؤدي لما وراءه، فكانوا يتعاملون مع حلب وما وراءها شمالًا (البلاد الحلبية) باعتبارها "ثغرًا من الثغور"، وثمة واقعة تشير لذلك في ثنايا التاريخ المملوكي، فالشائع أن الظاهر بيبرس قد اغتال المظفر قطز غضبًا، لأن هذا الأخير ضن عليه بولاية حلب، التي طلبها مكافأة له على حسن بلائه في موقعة "عين جالوت"، والواقع أن بيبرس بطلبه تلك الولاية، كان يدرك تحكمها في شمالي الشام ومن ثم قدرته على اتخاذها قاعدةً لابتلاع مصر، وقطز كذلك كان يدرك مغزى طلب بيبرس، فكان رفضه إشارة لهذا الأخير بانكشاف تدبيره.

كان شمالي الشام أخطر ثغور الدولة المملوكية، فكان نطاق حمايته يمتد إلى الأناضول في هيئة قلاع حدودية وراءها إمارات تركمانية شبه مستقلة موالية للقاهرة مثل إمارات "ذو القدر/دلغادر" و"قرمان" و"رمضان" و"قرا قوينلو" و"آق قوينلو"، لعبت دور "جندي الحراسة" للحدود الشمالية للدولة من ناحية، و"المنطقة العازلة" بين العملاقين المملوكي والعثماني من ناحية أخرى.. وإن كانت علاقاتها بالقاهرة أحيانًا ما تتوتر لمحاولة بعض حكامها المغامرة والتوسع على حساب "البلاد الحلبية" أو لسعي البعض لممارسة "اللعب على الحبلين" والتأرجح بين موالاة المماليك والعثمانيين، فكان المماليك يضطرون عندئذ لإرسال الحملات والتجاريد لردع هؤلاء التركمان المشاغبين.

لكن العثمانيين كان لهم رأي آخر. . كما سنرى..

المحاولات الأولى:

مع قيام ونشأة الدولة العثمانية -الإمارة آنذاك- كان المماليك ينظرون بعين الرضا لتوسع العثمانيين في آسيا الصغرى وأوروبا، باعتباره "نصرًا للإسلام" وقوة له.

وكان العثمانيون من جانبهم -آنذاك- يحترمون الدولة المملوكية ويحرصون على التواصل الودي معها، فكان السلطان مراد الأول يتواصل مع قرينه المملوكي السلطان برقوق، ويبلغه بتحركات تيمورلنك لمداهمة الدولتين المملوكية والعثمانية، وكذلك كان بايزيد الأول (الشهير بـ"يلدرم"/الصاعقة) يحذو حذو والده.

ولكن بايزيد ارتكب حماقة كبيرة، فخلال توسعه في آسيا الصغرى على حساب كل من التركمان والبيزنطيين، هاجم مدينة قيصرية الواقعة تحت الحماية المملوكية وأسر حاكمها وضمها إليه، فتشوش المماليك واستوحشوا منه، فلما دُوهم بقوات تيمورلنك، حاول إصلاح ما أفسد ورد المدينة لصاحبها واعتذر إليه وأرسل للمماليك يعتذر إليهم عما صدر منه ويطلب التحالف ضد الغزو التيموري، ولكن السلطة المملوكية كانت قد فقدت الثقة فيه، فلم تستطع أن تأمن لعهده.. وإن لبت طلبه إرسال تقليد من الخليفة العباسي  له بالسلطنة على بلاده، فضلًا عن إرسال طبيب وأدوية لمداواة مرضه بآلام المفاصل.

ثم عاد بايزيد سيرته السابقة من ارتكاب حماقة العدوان، فقد ارتد تيمورلنك إلى الهند، قبل أن يبلغ الدولتين المملوكية والعثمانية، وتوفي السلطان برقوق ليخلفه ابنه السلطان الطفل فرج، فاستغل بايزيد ذلك وهاجم كلا من ملطية وألبستين وبهسنا ودرندة من بلاد التركمان الواقعة تحت السيادة المملوكية، واعتدى على إمارة قرمان فقتل أميرها وحبس ولديه، الأمر الذي زاد وحشة المماليك من العثمانيين.

كان المغزى من تصرفات بايزيد صريحًا، فالعاهل العثماني كان يدرك أنه إن ابتلع تلك الإمارات، فسيجد الباب إلى الشام مفتوحًا أمامه على مصراعيه.

بل وثمة حقيقة تاريخية تقول إن المماليك كانوا ينظرون لتلك المنطقة باعتبارها امتدادًا لـ"البلاد الحلبية" ومن ثم لـ"الديار الشامية" كلها، أي أن -بعبارة أخرى-جنوبي تركيا الحالي هو شمالي سوريا السابق!

ثم جاء الجيش التيموري ليداهم مملكة بايزيد الذي هرع يعتذر للمماليك ويرد ما سلب من بلادهم، ويطلب عونهم ضد العدو الرهيب، لكن تكرار عدوانه ثم اعتذاره، أغلق ما بينهم وبينه من أوجه الثقة، فرفضوا التحالف معه وتركوه لمصيره، وسرعان ما هزم تيمورلنك بايزيد وأسره وحبسه، حيث مات في الأسر ومزقت الحرب الأهلية بلاده لفترة لا بأس بها.

في عهد السلطان العثماني محمد الثاني الشهير بـ"الفاتح" شهدت العلاقات المملوكية العثمانية تحسنًا، فقد كانت المراسلات والبعثات متبادلة بين الطرفين، خاصة في ما يتعلق بالتنسيق المشترك لمواجهة خطر القوى الأوروبية.

وعندما فتح محمد الثاني القسطنطينية، أمرت السلطات المملوكية بتزيين القاهرة وأقامت الاحتفالات وأرسلت التهاني بهذه المناسبة، ورد السلطان محمد برسائل خاطب فيها السلطان المملوكي بـ"أبي"، وعندما زار بعض أفراد البيت العثماني حلب، استقبلهم المماليك بالترحاب وأحسنوا ضيافتهم، تقديرًا للعلاقات الطيبة بين الدولتين.

عودة المطامع والاقتتال:
شاء القدر أن يتزامن سلطانان قويان، العثماني بايزيد الثاني والمملوكي قايتباي.. فلم يكن الأول ليتوانى عن تحويل مطامعه إلى عمل على أرض الواقع، ولم يكن الآخر ليتهاون في الدفاع عن دولته. ولكن بداية هذا الفصل من القصة سبقت ذلك بقليل.

كانت العلاقات المملوكية العثمانية قد بدأ يشوبها الفتور إثر قيام العثمانيين بتحريض بعض الإمارات التركمانية الحدودية على التحرش بالحدوود المملوكية، في محاولة لجس نبض تلك الأخيرة، فرد المماليك بالمثل وحرضوا الموالين لهم من التركمان على التحرش بالحدود العثمانية وبحلفاء العثمانيين، وراحت الدولتان -العثمانية والمملوكية- تقوي كل منهما حلفاءها بالسلاح والأموال بل وربما بالقوات وتدفعهم لما يمكن وصفه بـ"الحرب بالوكالة"، ثم زاد الطين بلة وقوع إساءة أدب دبلوماسية عثمانية عندما رفض السفير العثماني في القاهرة الانحناء في حضرة السلطان خشقدم.

ثم اضطر السلطان العثماني محمد الثاني لتهدئة الأوضاع نتيجة لانهماكه في حروبه الأوروبية وخشيته فتح جبهة جنوبية يجد نفسه إثرها محاصرًا من الخصوم، فتفاهم مع المماليك على التزام الطرفين عدم التدخل في الجبهة التركمانية وتركها كـ "منطقة عازلة" بين الدولتين الكبيرتين.

وهدأت الأوضاع إلى حين.. ثم عادت حالة التوتر تطل برأسها، إثر استغلال العثمانيين حالة فوضى الحكم بعد وفاة خشقدم وقيامهم بالاستيلاء على إمارة قرمان بالتزامن مع بداية عهد قايتباي.

وكالعادة بدأ فصل جديد من "الحرب بالوكالة"، فقد استهل قايتباي عهده ببلوغه أنباء تمرد "شاه سوار"-أمير إمارة ذي القدر/دلغادر التركمانية وتهديده البلاد الحلبية، فبادر السلطان المملوكي بإرسال الحملات العسكرية لقمعه.

والغريب أن العثمانيين لم يستغلوا انشغال إمارة ذي القدر بحرب المماليك ليثبوا عليها ويبتلعوها، مما يشير لاحتمال أنهم كانوا ينظرون بعين الرضا لهذا التهديد للديار الشامية، إن لم يكونوا محرضين عليه.

توالت حملات قايتباي ضد المتمردين، ولكن شاه سوار تمكن -بفضل براعته في الخدع الحربية- من هزيمة تلك الحملات واحدة تلو الأخرى -هزائم شنعاء- بشكل خاطر بهز هيبة سلطنة المماليك في المنطقة.

فما كان من قايتباي إلا أن نظم حملة ثقيلة جعل على رأسها "رجل المهام الصعبة" الأمير يشبك الدوادار، الذي لحقت به قوات مملوكية من نيابات الشام، وفوجئ شاه سوار بالقوات المملوكية تبتلع حصونه واحدًا تلو الآخر حتى اضطر للاستسلام ونُقِلَ إلى القاهرة، حيث تم إعدامه علنًا مع إخوته ورجاله.. وعُيِّنَ مكانه أخوه "شاه بدق" الذي كان مواليًا للمماليك.

لم يكد المماليك يلتقطون أنفاسهم من تمرد شاه سواء حتى فوجئوا بتمرد من "حسن الطويل" أمير إمارة "آق قوينلو/الخروف الأبيض"الذين توسعوا حتى قضوا على أبناء عمومتهم الـ"قرا قوينلو/الخروف الأسود" واستولوا على ممتلكاتهم، ثم استغل حسن الطويل ضعف البيت المغولي الحاكم في العراق وداهم "أبو سعيد" خان مغول العراق وقتله واستولى على مملكته.. ثم تمادى في أطماعه فراح يهاجم المناطق المملوكية في الأناضول وقد شاع أنه يستعد لمداهمة حلب.

بل راسل الأمير التركماني الفرنجة وسعى لإقامة حلف معهم بحيث يهاجمون المماليك بحرًا بينما يهاجم هو برًا، ولكن الرسالة وقعت في أيدي العثمانيين الذين أرسلوها لقايتباي مع تحذير من تلك المؤامرة في محاولة منهم لإظهار حسن النوايا.

وأخيرا بعد إدراك حسن الطويل فشل مساعيه ركن إلى الهدوء حتى مات، وانهمك ورثته في صراع على الحكم فبردت تلك الجبهة..

عدوان بايزيد الثاني ثم ردعه:
كان ما سبق مقدمة لصراع المماليك بقيادة قايتباي مع العثمانيين بقيادة بايزيد الثاني -نتيجة عدوان هذا الأخير- وما تمخض عنه..
فعندما لم تفلح مساعي العثمانيين في إثارة الفتن وتحريض التركمان على انتهاك شمالي الشام المملوكي، كشفوا عن وجوههم المعادية وصار العداء سافرًا. اتخذ العثمانيون ذلك العدوان ذريعة لإيواء المماليك للأمير العثماني جِم.

فبعد وفاة محمد الثاني، ورث الحكم ابنه بايزيد الذي كان من حقه -وفقًا لقانون نامه محمد الفاتح- أن يقتل إخوته الذكور لضمان عدم تعرض العرش للصراعات مستقبلًا، ولما كان جِم يدرك أنه إذن إما في القصر وإما في القبر، فقد حاول أن يحارب أخيه لكنه فشل، ورفض بايزيد اقتراح جِم بتقاسم المملكة، ففر الأمير المهزوم إلى مصر ليحسن السلطان قايتباي استقباله (ومن المعروف عن قايتباي أنه كان لا يرد مستجيرًا به).

في البداية سعى قايتباي للإصلاح بين الأخوين العثمانيين، لكن بايزيد أصم أذنيه عن صوت الصلح وأصر على تسليمه أخاه المارق.. ومن ناحية أخرى حاول جِم إقناع قايتباي بدعمه بالقوات لإسقاط حكم بايزيد مقابل أن يكون جِم مواليًا للقاهرة وتابعًا لها، لكن قايتباي رفض ذلك.

فاستأذن جِم السلطان المملوكي أن يسافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهي رحلة كان غرضها غالبًا جمع الأتباع والتأييد له، ثم رجع إلى القاهرة وسرعان ما استأذن في الارتحال عن مصر فوافق قايتباي على مضض، فحاول جِم مداهمة مملكة أخيه الذي هزمه مجددًا، ففر الأمير إلى جزيرة رودس عند فرسان القديس يوحنا (الإسبتارية/الهوبيتاليين) الذين اتفقوا مع أخيه على الاحتفاظ به مقابل مبلغ دوري تدفعه إسطنبول لهم، ثم بعثوا به إلى نابولي ومنها إلى روما التي كان يحكمها بابا من آل بورجيا، حيث لقي جِم حتفه في ظروف غامضة.

إثر تلك الأزمة جاهر بايزيد بعدائه للمماليك.. واستغل قيام الأمير التركماني  من إمارة ذي القدر"علي دولات" بالانقلاب على حاكمها ابن عمه "شاه بدق" الموالي للقاهرة، وقدم الدعم لعلي دولات وأمده بالجنود والسلاح (جدير بالذكر أن بايزيد كان متزوجًا ابنة علي دولات، التي أنجب منها ابنه سليم، أي أن علي دولات هو جد سليم الأول لأمه).

لم تكن الأزمة في إيواء المماليك لجِم، وإنما كانت ذريعة لتحقيق الحلم العثماني القديم في انتزاع الشام من المماليك كخطوة أولى لمداهمة دولتهم.

بلغت المماليك أنباء تحركات علي دولات والعثمانيين، فأرسل قايتباي حملة بقيادة ابن أخته الأمير تمراز إلى إمارة ذي القدر، هزمت جيش المتمردين وحلفاءهم العثمانيين ورجعت إلى القاهرة بالأسرى من العثمانيين ونحو مئتين من رؤوس قتلاهم على أسنة الرماح وبالأعلام العثمانية ممزقة ومنكسة.

بعد أن أظهر المماليك قدرتهم على ردع المعتدي، مدوا يد السِلم فأرسلوا إلى العثمانيين رسالة من الخليفة العباسي -باعتباره الزعيم الروحي للمسلمين- يحثهم فيها على الصلح، وفيها تقليد منه لبايزيد الثاني سلطانًا على العثمانيين و"ما يُفتَح على يديه من الديار الكفرية".
ولكن بايزيد أبى إلا الحرب وأساء معاملة الرسول ولم يكترث لرسالة الصلح.. وبغى فهاجم قلعة "كولك" التابعة للمماليك وأعلن ضمنها لدولته.

وبينما العثمانيون في عتوهم، إذ تلفت تركمان إمارة ذي القدر وأميرهم علي دولات فوجدوا أنفسهم في مأزق، فهم قد كسبوا عداوة المماليك، وفي الوقت نفسه لا يأمنون غدر العثمانيين، فبادر علي دولات لمراسلة القاهرة وإعلان الطاعة للدولة المملوكية.

ولما أمن المماليك جبهة التركمان، بعث قايتباي حملة بقيادة قائده القدير أزبك -أتابك العساكر المصرية- الذي التقى العثمانيين ثلاث مرات هزمهم فيها شر هزيمة وقبض على قائد جيشهم أحمد بك بن هرسك الذي كان من أرفع قادتهم وتولى منصب الصدر الأعظم مرات عدة، وبُعِثَ إلى القاهرة مع الأسرى ورؤوس القتلى العثمانيين حيث زُج به في السجن.

ومرة أخرى حاول قايتباي مد يد الصلح، وبالغ في إظهار حسن النوايا فأطلق سراح أحمد بك بن هرسك وأسرى العثمانيين وكساهم وأعطاهم النفقة وأرسلهم إلى بايزيد الثاني الذي أبى إلا التمادي في حماقاته، فأرسل حملة عثمانية برية إلى حلب وأخرى بحرية إلى ميناء الإسكندرونة السوري، إلا أن عاصفة أغرقت سفن الحملة البحرية واستطاع الجيش المملوكي أن يسبق الحملة البرية بل وأن يتوغل في الأراضي العثمانية حتى بلغ مدينة "أضنة".

وكأن بايزيد لم يتعب من الهزائم، فقد أرسل حملة تالية استولت على مدن طرسوس وسيس وإياس، ولما أدرك أنه بهذا يستفز تحرك المماليك من جديد أرسل مبعوثًا للقاهرة يطلب الصلح، فاشترك قايتباي أن يطلق بايزيد سراح أسراه من المماليك وأن يسلم المدن التي استولى عليها ليتم الصلح المطلوب.. ولكن بايزيد لم يوافق.

فأرسل السلطان المملوكي حملة جديدة بقيادة قائده أزبك (المنسوبة له منطقة الأزبكية بالقاهرة) وأمره السلطان بأن يبادرهم بطلب السلام أولًا، فإن رفضوا فهي الحرب، ولما رفض العثمانيون الجنوح للسلم، قام أزبك بالتوغل في بلادهم عن طريق حلب، واستمر ينفذ ضدهم سياسة "الأرض المحترقة" ويسلب وينهب ويشيع التدمير (وهي سياسة مقصود بها خلق أزمة لديهم ينشغلون بها عن الاستمرار في الحرب) واستولى على بعض قلاعهم.

بعد تلك الهزيمة الثقيلة للعثمانيين، تدخل حاكم تونس فتوسط بين القاهرة واسطنبول سعيًا للصلح، ويبدو أن العثمانيين كانوا قد استهلكوا بالهزائم فاضطروا لقبول الصلح وقام بايزيد بإطلاق الأسرى وإرسال مفاتيح القلاع التي استولى عليها من المماليك، وفي المقابل أطلق قايتباي سراح القادة والأسرى العثمانيين وكساهم ووزع عليهم نفقة وأعادهم مكرمين إلى بلادهم.

بذلك الصلح، عادت العلاقات المملوكية العثمانية إلى حالة السلام والود لفترة استمرت نحو ربع القرن.

ولكن النظرات العثمانية الطامعة في الشام بقيت نارًا تحت الرماد، فعندما خلع سليم العثماني أبوه بايزيد الثاني من العرش، سرعان ما جاهر بالعداء فاجتاح الإمارات التركمانية وعلى رأسها ذو القدر التي قتل أميرها علي دولات-جده-وبعث رأسه إلى القاهرة في حركة مستهزئة.. ثم اجتاح الشام-بمساعدة الموالين له من التركمان ومن انحازوا لجانبه من خونة أمراء الشام من المماليك- ومن بعده ابتلع مصر ليبدأ عصر من أسوأ وأسود عصور المنطقة على مختلف المستويات السياسية والحضارية.

وبقدرة قادر، تحول ما كان "شمالي سوريا" و"البلاد الحلبية" وامتداد "الديار الشامية" إلى ما يُعرَف اليوم بـ"جنوبي تركيا"!

هي قصة عدوان قديم إذن.. وما عدوان اليوم إلا واحدة من حلقاته.