إنّ الدّولة الوطنيّة الحديثة - التي هي إطار هذه التحوّلات جميعاً والمحرِّك الذي قاد إليها- هي نفسها التّجسيد الماديّ والمؤسّسي الأعلى لتلك العقلانيّة، والبرهان الأصدق على فاعليّة دورها في صناعة الفصول الحديثة من التّاريخ الإنسانيّ، وهي- في الوقت عينه- الضّمانة الأساس لاستمراريّة مفعول العقلانيّة في المجالات الحياتيّة، وتكريس سلطانها الماديّ.

هذه حقيقةٌ ابتدائيّة يُبْنَى عليها القول إنّ العقلانيّة اليوم، بل منذ قرون ثلاثة، سمةٌ رئيس من سمات السّياسة، بل لا قيام للسّياسة - بمعناها الحديث- من دون عقلانيّةٍ تقع منها موقع المِدْماك الذي عليه مبْنى قواعدها. ومع أنّ العقلانيّة السّياسيّة الحديثة غير السّياسة العقليّة التي تحدّث عنها القدماء، كابن خلدون، ووضعوها في مقابل أنواع أخرى من السّياسات، إلاّ أنّ هذه السّياسة العقليّة نفسَها تمتّعت بتقديرٍ كبير في الفكر الإنسانيّ، منذ أفلاطون وأرسطو حتّى فجر العصر الحديث، مروراً بالفارابي وابن خلدون وميكياڤيلي، وذلك لسببٍ معلوم هو اقترانها بالعقل وقيام أحكامها على قواعده.

وإلى ذلك فهي أثبتت لديهم نجاعتَها وتميُّزها عند التّطبيق والاختبار، فقامت بها دولٌ وابْتُنِيَتْ حضارات ذات صيتٍ وأثر. إذا كان هذا شأن السّياسة العقليّة، عند من قالوا بها من المفكّرين والفلاسفة ولدى مَن أقاموا النّظام السّياسيّ عليها من القادة ورجالات الدّولة، فكيف تكون الحال مع العقلانيّة السّياسيّة؛ وهي عتبةٌ متقدّمة في تطبيق قواعد العقل في السّياسة، وخاصّة مع التّحوّل الكبير الذي نجم من الانتقال من العقل إلى العقلانيّة؟

ما الذي نعنيه بالعقلانيّة السّياسيّة وبكونها أصبحت سمةَ السّياسة والدّولة في الأزمنة الحديثة، وفي العالم المعاصر على نحوٍ خاصّ؟

تنتصب العقلانيّةُ السّياسيّة ضدّ نمطٍ من الفعل السّياسيّ قديمٍ، ومستمرِّ الوجود، يمكن تسميّتُه المزاجيّة السياسيّة. وهذه كناية عن طريقةٍ في إدارةِ السّياسة على مقتضى الهوى والمزاج، أو بتحكيم الوازع الذّاتيّ والمصلحة الضّيقة. تتولّد من هذه الطريقة ظواهر عدّة مثل التفرُّد في إدارة الشّأن العامّ، والاستبداد بالرّأي، والخوض في خيارات مغامِرة وغير محسوبة العواقب. وغنيّ عن القول إنّ أكثر مشكلات السّلطة والسّياسة، قديماً وحديثاً، إنّما تَأتّى من هذه الطريق المزاجيّة في إدارة السّياسة والسّلطة.

والمشكلات تلك ما كانت خاصّة بالدّول والأنظمة السّياسيّة، فحسب، بل سَرَت مفاعيلُها على الأحزاب والحركات السّياسيّة التّي سادت فيها تلك النّزعة. ولقد يُمكن، هنا، التّعميم فالذّهاب إلى أنّ المزاجيّة تلك يمكن أن تكون سبباً في توليد نوعٍ من التّربيّة الأسْريّة رديء، قائمٍ على العنف الماديّ والرّمزيّ والأوامريّة القمعيّة، التي ترتّدّ نتائجُها بالسّلب على ما من تَقَععليهم من النَّشئ.

في مقابل هذه تنصرف العقلانيّة السّياسيّة إلى إقامة الفعل السّياسيّ على أساسات أخرى: الرّأي الجماعيّ بدلاً من الرّأي الفرديّ؛ المعرفة الدّقيقة بدلاً من الظّنّ أو الارتجال؛ المصلحة العامّة بدلاً من المصلحة الخاصّة؛ الكفاءة بدلاً من الزّبونيّة؛ المسؤوليّة بدلاً من التّبريريّة؛ المُحاسبة بدلاً من المُداهنة.. إلخ.

ويقترن بهذه الأساسات، التّي تقوم عليها العقلانيّة السّياسيّة، مبدأٌ تحتيّ عليه تقومُ جميعُها هو: الحساب الدّقيق. يتعلّق الحساب هذا بكلّ شيء: بحساب الموارد، حساب الممكنات؛ حساب الاحتمالات، حساب المخاطر؛ حساب الاستجابات وردود الأفعال؛ حسابُ مَواطن القوّة ومَواطن الضَّعف؛ حساب التحوُّلات والطّوارئ المفاجئة، حساب الرّبح والخسارة؛ حساب المنفعة والمصلحة وحساب الضّرر... إلخ.

تُبْنَى على هذا الحساب الدّقيق استراتيجيّاتُ عملٍ مدروسةٌ، تخطيطٌ بعيدُ المدى وتخطيطٌ قريب المدى، ترتيبٌ للأولويّات، تحديدٌ للأهداف الممكن بلوغها في مدًى بعينِه؛ تهيئةُ شروط تحقيق الأبعد من الأهداف وتوفير مواردها؛ وضْعُ  التّنظيمات والمؤسّسات المطابِقة لنوع البرامج المخطَّط لها والمُعَدّة؛ توفيرُ الكفاءات المناسبة لإنجاز البرامج المقرَّرة... إلخ.

الحساب العقلانيّ السّياسيّ، في هذه الحال، أشبه ما يكون بالحساب الرّياضيّ الدّقيق؛ كلّما أصاب الدّقّة تولّدت منه السّياسات المنتِجة النّاجعة. إنّ العقلانيّة السّياسيّة، بهذا المعنى، هي النّقيض من نزعة مَرَضيّة ثانيّة، لا تقلّ عن المزاجيّة خطورةً، هي النّزعة التّجريبيّة في السّياسة؛ النّزعة التّي تُدار بها السّياسة على مقتضى التّجريب والصّدفة، فتنتقل هكذا من تجربةٍ إلى أخرى بحثاً عن النّموذج، وفي انتقالاتها تلك تتحرَّك من دون بُوصلة، وبالتّالي، لا يُؤْمَن من أن تَنْقَاد نحو "خيارات" قاتلة!