فما أن تطلب من أحد الإذاعيين أو الإذاعيات رواية بداية العمل في هذا المجال أو سرد بعض الذكريات، تأتيك المعطيات متطابقة إلى حد كبير، حيث استبدل أغلبهم جهاز الميكروفون بشيء من حواضر المطبخ مع إسراف كبير في استهلاك أشرطة الكاسيت لتسجيل الفقرات الترفيهية ومحفوظات المدرسة أو حتى الحوارات المنزلية العادية إلى حين ظهور أجهزة التسجيل صغيرة الحجم والمتميزة بوضوح الصوت.

هذا التطابق في الخصال والذكريات يعطي صورة متطابقة أيضا عن الطباع المشتركة التي يتقاسمها الإذاعيون والإذاعيات، حيث إنه للانتقال من مرحلة الهواية إلى مرحلة الالتحاق بالعمل الإذاعي محطات واستحقاقات لا بد من المرور بها ومعايشة لذتها وهفواتها، خاصة في النشرة الإخبارية الأولى والبرنامج الأول والإطلالة المباشرة الأولى، وكلّها تبقى ذكريات محببة يحرص الإذاعيون على استرجاعها لما تتميز به من دفء مميز ومختلف عن العمل في وسيلة إعلامية أخرى.

وربّما هذا لبقاء هذه الهفوات في إطار عفوي طبيعي يسهل معه الاعتذار دون الشعور بارتكاب جريمة أو كارثة، مع الإشارة إلى أن المستمعين ليسوا جمهورا متسامحا مع الخطأ إلى هذه الحدود لكن طبيعة مرورهم اليومي على أصوات من يحبون تجعلهم قادرين على التعاطف مع الإذاعي أو الإذاعية، حتى أنهم مع مرور الزمن يصبحون قادرين أيضا على تحليل المزاج اليومي للمقدم أو المقدمة خاصة في الفترات المباشرة الصباحية والمسائية.

قبل مرحلة الاحتراف إذًا، لا شيء يشجع الإذاعيين على أي خطوة تظهر للناس وجوههم، فهم يكتفون فقط بأسمائهم وببصمتهم الصوتية هوية وببعض الأخطاء حافزا لتحسين أدائهم بهدف الوصول إلى أول نشرة خالية من الأخطاء وأول مقابلة بلا هفوات وأول فترة مباشرة بعيدة عن الارتباك من باب العمل على تثبيت الحضور حتى أن كبار الإذاعيين مروا على المهنة تاركين بالكاد صورا نادرة لا توثق بالضرورة أعمالهم وإبداعاتهم.

هذه الأجواء واكبتها الإذاعة لسنوات طويلة حاملة قناعة عنيدة مفادها أنه لا شيء فوق العادة أو خارج عن المألوف سيطرأ على العمل الإذاعي لجهة تطوير المضامين أو تحسين تقنيات البث أو التفاعل مع الجمهور حتى أن وجود الانترنت لم تستفد منه الإذاعة في بادئ الأمر سوى لتخصيص عناوين إلكترونية لتحسين المراسلة بينها وبين جمهورها ويوم قررت الإذاعات خلق مواقع الكترونية لها على الشبكة لم تراعِ عامل الصورة لا لتجهيزاتها ولا لفريق عملها فبقيت الإذاعة بناسها عالمًا سريًا لكثيرين حتى كان التحول الكبير.

أسميه تحولاً، ليس لأنه روّج للإذاعة وموجاتها وبرامجها وضيوفها أمام جمهور قد لا يكون من المستمعين أصلاً، بل لأنه تجرأ على كلاسيكية هي بالأصل أساس السحر الذي بنت عليه الإذاعة مجدها فأتحدث في هذا المجال عن "الانقلاب الرمادي" الذي تعمل وسائل التواصل الاجتماعي على مواصلته بصعوبة ضد التيار الإذاعي الكلاسيكي الرافض حتى اليوم إظهار وجهه الى مستمع رسم في مخيلته ألف وجه عمّن يهمس له ليل نهار داخل جهاز الراديو.

يعتبر هذا التيار الكلاسيكي أن حربا شرسة تُمارس على خصوصيته عبر تلك الوسائل وتطور تقنياتها وتطبيقاتها حيث كان للحظة وضع الاذاعيين صورا لهم خلف الميكروفون على فايسبوك ولاحقا على تويتر وإنستغرام وقع مقلق على مستقبل الإذاعة لجهة انكشاف أصحاب الأصوات الرخيمة وصولا إلى تقنية البث المباشر الذي خوّل الجمهور اكتشاف العمل الإذاعي بالصوت والصورة وهو ما أوجد إشكالية الموت أو البقاء لوسيلة اعتادت التغريد خارج سرب التقدم التكنولوجي متسلحة بأمجاد ماضيها.

واليوم، تدخل تقنية البودكاست لتعزز قناعة بقاء الاذاعة على الرغم من إيحاءات انتهائها، حيث لبساطة الحوارات التي تطبع نسخ البودكاست عبر وسائل التواصل الاجتماعي دلالة على حاجة الناس لها وتحديدا إلى مساحات الفضفضة التي لا توفرها أي وسيلة أخرى إلا بمساحات مقننة ومحدودة.

البودكاست قد يطبع صورة العمل الإذاعي برمّته مستقبلاً، لكنه يمدّها بطاقة متجددة وقوية على طريق تعديل المحتوى وجعله عصريا وأكثر رشاقة في مقاربة الموضوعات الحياتية العادية.

إشكالات على صورة صراع الأجيال تعيشه الإذاعات داخل أروقتها، تبدأ بتراشق الاتهامات بتراجع الثقة، تمر بدراسة جدوى تقديم المضمون الإذاعي بالصوت والصورة أمام جمهور قد لا يكون متابعا للإذاعة، ولا تنتهي بغصة الانهزام والاستسلام لنهر الصورة الجارف الذي قضى بحسب التيار الكلاسيكي على مذهب إعلامي بحد ذاته فيما وفّر للتيار المُجدد فرصة الظهور يوما ما على الشاشة بعد إيجاد المناسبة لكشف مواصفات من هو خلف الميكروفون شكلاً وصوتا ما يضيّق دائرة الخطر على الإذاعة كمدرسة إعلامية يومًا بعد اليوم دون أن يخرق هذه الخطورة سوى قناعات "مثالية" مصرة على استمرارها دواءً وبلسمًا لجراح الناس.

هو انقلاب رمادي، لا أسود ولا أبيض، ليس بقادر على تذويب الإذاعة بالشاشة بشكل كامل ولا يتجرأ في الوقت نفسه على إغلاق أبوابها ففي داخلها كبارها وكبارنا ومعهم المجد الماسيّ والذاكرة السمعية والعصور الذهبية.

إنقلاب يطالب بآخر همسات الأثير، وأثير عليه إعادة الاعتبار بشعارات المظلومية، هذه هي المعركة!