تعال أشرح لك..  ثمة تجربة قام بها عالم النفس الروسي بافلوف، حيث أحضر كلبًا واعتاد عند تقديم الطعام له أن يرن جرسًا معينًا، ومع تكرار هذا الأمر أصبح لعاب الكلب يسيل كلما سمع رنين الجرس حتى من قبل أن يوضع هذا الطعام
بافلوف هنا خلق حالة "استجابة شَرطية" عند الكلب..

ونفس الشيء ينطبق على الإنسان، كم من مرة شعرت بطعم الحمضيات على لسانك وانت بعد ما زلت تبدأ في تقشير البرتقالة؟ لو أنك ممن ينتظرون موسم المصيف بفارغ الصبر ألا تشم رائحة يود البحر قبيل آخر امتحانات نهاية العام؟ هذه هي الاستجابة الشرطية المذكورة..

لخلق هذه الاستجابة لا بد من وجود "مؤثر" و"علاقة سببية"..  يتم تقديم المؤثر لك والذي تم غرس ارتباطه سببيًا بالنتيجة فتصدر عنك الاستجابة فور تقديم هذا المؤثر تلقائيًا حتى وإن لم تُقَدَم لك النتيجة.

والأمر لا يقتصر على مستوى الفرد ولكنه يتعداه للمستوى الجمعي، بحيث يكفي مؤثر معين لإحداث أثر جماعي في الفئة التي تعرضت لهذه العملية النفسية..  وهو كذلك لا يقف عند جيل واحد بل قد ينتقل أثره لأجيال.. حتى أن ثمة من يفسرون الخوف الطبيعي من الظلام عند الإنسان بأنه ميراث الإنسان البدائي قبل عشرات الآلاف من السنين عندما كان الظلام يمثل له أخطار البرد الشديد وفقد الطريق وهجوم الحيوانات المفترسة.

بافلوف لم "يكتشف" هذه الاستجابة الشرطية فهي جزء من تكوين الكائنات، ولكنه وضع إطارًا علميًا لها.. والحقيقة أن الكثيرين قد اكتشفوا هذه الاستجابة سواء على المستويات الفردي والجماعي واستطاعوا أن يطوعوها لرغباتهم.. وهو ما فعله العثمانيون مع الشعوب العربية على مر قرون من حكمهم لها..

الدوافع العثمانية لخلق الارتباط الشرطي بالإسلام:

منذ تعرض المشرق العربي الإسلامي للخطرين الصليبي والمغولي، وفي ظل تحول الخليفة العباسي إلى صاحب سلطة صورية ومجرد حامل للقب شرفي ومكانة روحية، أصبح قيام الأنظمة الإسلامية مرتبطًا بوجود "غرض جهادي" يضفي الشرعية على  وجودها وتسلطها على الحكم.

هكذا قامت مجموعة من الدول كلما ضعفت إحداها أو انهمك أبناء بيتها الحاكم في الاقتتال الداخلي انبثقت منها أخرى وورثت ممتلكاتها وسلطتها وشرعيتها.. بدايةً بالسلاجقة، ثم ورثتهم آل زنكي، وآل أيوب ورثة الدولة الزنكية، والمماليك صنيعة الدولة الأيوبية وورثة عرشها.

وبالقضاء على آخر جيب صليبي في عكا في عهد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون، وانتهاء الخطر المغولي بعد عدوان تيمورلنك على الشام في عهد السلطان فرج بن برقوق، استمرت دولة المماليك في الحفاظ على شرعيتها من خلال تحولها إلى المعقل الأخير للحضارة العربية الإسلامية ورعايتها للمظاهر المختلفة لتلك الحضارة، فضلًا عن تصديها لقراصنة البحر المتوسط من كتلان وقبارصة وغيرهم.

بالنسبة للعثمانيين كانت ورقة الشرعية تتمثل في وضع السهم الأخير في الجسد البيزنطي المنهار أصلًا بقيام محمد الثاني بفتح القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة للدولة العثمانية.. وما تبع ذلك من توسعات عثمانية في أوروبا الشرقية والبلقان.

ولكن قيام سليم الأول بنقل القتال إلى جبهة شرقية ممثلة في غزوه للسلطنة المملوكية كان يحتاج إلى عملية كبرى لإضفاء الشرعية عليه، وعلى الاحتلال العثماني للبلدان العربية الإسلامية، حتى لا يُصَنَف آل عثمان ك"فئة باغية".

وكذلك استمرار الدولة العثمانية في احتلال بلاد العرب وتحمل الشعوب العربية لما صاحب الحكم العثماني من ظلم واستنزاف للثروات وفساد إداري وانهيار للخدمات وعلى رأسها الصحة والتعليم.. كان العثمانيون يحتاجون إلى مبرر يجبر الرعايا على تحمل كل ذلك ويجعلهم يحجمون عن الثورة.

الدعاية العثمانية الخبيثة:

هنا ظهرت خطورة نشاط "الدعاية الدينية للحكم العثماني".. فمن ناحية استخدم سليم في حربه مع الدولة الصفوية ورقة "المذهب" فقدم نفسه باعتباره "حامي الإسلام السُنّي من الصفويين الروافض"، وهي مسألة محل جدل، إذ أثبت التاريخ أن الحروب المتشحة برداء الدين عادة ما يكون محركها الأساسي هو المصلحة السياسية والاقتصادية.

ومن ناحية المماليك، استصدر سليم فتاوى من شيوخ سلطنته تشرعن عدوانه على المماليك وتبرره بأن هؤلاء الأخارى قد خانوا الإسلام وأن جهادهم واجب كجهاد "الكفار".

والتقط خلفاءه طرف هذا الخيط فأشاعت دعايتهم بعد ذلك أنهم ما جائوا إلا بناء على استغاثات من رعايا المماليك يطلبون أن يخلصهم العثمانيون من المماليك الظالمين (وللسخرية كانت هذه هي ذريعة المحتل الفرنسي خلال حملة نابوليون)
كما "قفزوا" على النشاط الدفاعي التونسي والجزائري في مواجهة محاولات العدوان الأوروبي ضد شمالي أفريقيا، ودور المقاومة التي حمل أعبائها بعض المتطوعة من الأتراك والمغاربة بقيادة الأخوان-ذوي الأصل اليوناني-"بارباروسا"، ونسبوها لأنفسهم
وأضفى سليمان القانوني وخلفاءه على الحروب العثمانية التوسعية في أوروبا صفة "الجهاد ضد الصليبيين"، و"الدفاع عن دولة الإسلام ضد التآمر الصليبي" رغم أن الحرب على الجبهة الأوروبية كانت نتيجة طبيعية يمكن أن تقع في أي زمان ومكان لتوسع دولة ضد دول أخرى.

أي أن العثمانيين حولوا حقيقة أن "نحن نتوسع لمد سلطاننا وتوسيع إمبراطوريتنا وبالتالي فنحن نواجه مقاومة وحرب من الدول التي تنافسنا على ذلك أو التي يمثل توسعنا خطر عليها" إلى دعاية أن "نحن نحارب دفاعًا عن الإسلام ضد هؤلاء الأشرار الذين يتآمرون علينا بلا سبب" (وأنا هنا لا أدين فكرة التوسع في حد ذاتها لأنها كانت سمة العصر وإنما أدين مبدأ الكذب واستغلال الأمر لفرض السيطرة.. وثمة ملاحظة أخرى أن بعض حكام أوروبا كانوا يحاولون استخدام نفس السلاح بوصف حملاتهم النفعية بأنها صليبية لخدمة الدين وهي في النهاية حرب مصالح).

بالتوازي مع ذلك كانت السلطة العثمانية تضرب ستارًا حديديًا من العُزلة على رعاياها، وتقدم لهم صورة شيطانية عن الآخر أنه وغد متأمر متربص.. فكان من الطبيعي مع الوقت أن تنشأ أجيال ترى في العالم المحيط غابة مرعبة لا يحميهم منها سوى "مولانا السلطان ولي أمرنا وحامينا" المتربع في إسطنبول!.

وما زاد الطين بلة هو قيام السلطة العثمانية وأبواق دعايتها-في القرن الثامن عشر وتحديدًا عهد عبد الحميد الأول-بنشر أكذوبة تنازُل الخليفة العباسي الأخير المتوكل على الله عن الخلافة لسليم الأول.. فبهذا الشكل أصبح السلطان يملك السلطة الدنيوية وتلك الروحية.. وأضيف مزيدًا من "الحصانة" على أفعاله.

بالتالي فمع الوقت قد خُلِقَ ارتباط شرطي بين العثمانيين والإسلام.. وبالتالي فإن الاستجابة المنشودة هي أن يترجم المتعصب لهم أي هجوم عليهم باعتباره هجومًا على الإسلام ذاته.

ولقد سعى العثمانيون لاستغلال تلك الحصانة، وبدا هذا واضحًا في ظروف متنوعة، فخلال تمرد علي بك الكبير استطاع العثمانيون إقناع تابعه محمد بك أبو الدهب من الانقلاب عليه بسلاحين هما: الإغراء بتوليته على مصر، و"التخويف من سوء العاقبة أمام الله لأنه ينقلب على إمام المسلمين".

وخلال حروب محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا ضد الاحتلال العثماني-والتي أستطيع أن أصفها بالحروب التحررية-استخدم السلطان سلاح الفتاوى ب"الخروج على إمام المسلمين" ضدهما (ملحوظة: قام علي الصلابي بإفراد فصل كامل من كتابه "الدولة العثمانية" لاتهام محمد علي باشا أنه ماسوني وأن توليه حكم مصر كان مؤامرة ماسونية).

وفي محاولة أحمد عرابي للتصدي للاحتلال البريطاني وخيانة الخديوي توفيق، طُعِنَ من ظهره بخنجر فرمان عثماني من عبد الحميد الثاني بأن "عرابي عاصٍ وخائن".. مما ساعد في فت عزيمة الناس من حوله وانفضاضهم عنه.

إذن فقد استطاع العثمانيون أن يغرسوا فكرة "قداسة الدولة" في الوجدان الجمعي وأن يورثوها لأجيال بقيت تورثها لأجيال تالية حتى بعد سقوط الدولة العثمانية بما يقرب من القرن!.

ولننتبه هنا، فما تم توريثه ليس "الاعتزاز" العقلاني المتزن، وإنما هو "التعصب" الأعمى والذي يدفع المتعصبين عثمانيًا-وبعضهم يقرأ هذا الكلام الآن-لأن يواجه النقد للعثمانيين بالاتهامات في الدين ورشق تهم التآمر والحقد على المسلمين والعمالة للأعداء إلخ..إلخ..(وهو ما سيفعله بعض هؤلاء فور قراءتهم هذا المقال).

ثمة نقطة أخيرة ينبغي أن نشير إليها، وهي أن فكرة "تقديس الحاكم والدولة" التي تبناها العثمانيون كوسيلة للسيطرة على الشعوب الخاضعة لهم هي في الأساس موروث تركي قديم منذ ما قبل الإسلام، فال"باد شاه"-الملك أو السلطان-بالنسبة للترك القدامى هو الأب الأكبر وهو الراعي والحامي وهو الدولة والدولة هو، ومخالفته هي خروج على الدولة وليست على شخصه.. نفس الفكرة تبناها العثمانيون بعد اعتناقهم الإسلام وطوروها بحيث تصبح سلاحًا في مواجهة أي تمرد أو ثورة أو خروج على سلطتهم نتيجة ظلمهم وطغيانهم (ملاحظة: لم يمنع هذا قيام ثورات وتمردات تصاعدت وتيرتها مع دخول العثمانيون في طور الانبطاح والهزائم والخيبات منذ نهايات القرن السادس عشر الميلادي).

ثمة مثال مصري شهير، عن ذلك التلميذ الطفل الذي يضايق زملاءه ويؤذيهم حتى إذا ما هموا بالبطش به رفع حقيبته محتميًا بها وصاح بهم "الشنطة بها كتاب دين" مما يرهبهم من رد العدوان خوفًا من أن يصيبوا "الشنطة" ويهينوا قدسية "كتاب الدين"..
هذا هو ما فعله العثمانيون بمقام السلطان وسياساته وأفعاله في مواجهة رعايا الشعوب المغلوبة (بعكس ما كان منهم أحيانًا فيما بينهم).. وهو نفس ما يفعله العثمانيون الجدد مع التاريخ العثماني، فدونًا عن مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الثري الطويل، وكل ما فيه من أسر حاكمة (حوالي 186 أسرة)، يحظى العثمانيون من اتباعهم الجدد بقدسية تنزعهم من مقام البشر القابلين للنقد والهجوم والذم إلى مصاف الأنبياء والرُسُل الذين إن مسستهم خرجت عن الدين!
وثنية جديدة، ولكن بشكل خبيث!.