"الرسائل الأخلاقية" ..1

الاثنين: 16 مارس 2020م
اليوم هو الميعاد الرسمي الذي حدّدته السلطات لسريان حظر الخروج إلى الشوارع، برغم أنّي سبقت هذا التاريخ بأسبوعين، فرضت فيهما حكم الإقامة الجبرية على نفسي لا خوفاً من الوباء، ولكن تلبيةً لنداءٍ طبيعي كسجين بالفطرة، أمضى عقوداً في رحاب عزلة هي بكل المقاييس سجن، برغم سجيّته كحكم طوعي، يقيناً منّي بأن الحضور قيد الوجود وحده قبولٌ بقدَر السجين، وما حياتنا سوى تزكية ضمنية لهذه الصفقة. ولن يضيرنا أن نقبل اليوم بالقسمة، المفروضة على واقعنا بحرف الوباء، فنمكث في جحورنا، لنستبدل بذلك سجناً أكبر هو الوجود، بسجنٍ في صيغةٍ هي الكفّ عن خروجٍ هو في الترجمة كناية عن فرار من أنفسنا، دون أن نجحد في حقّ سجننا، فننسى أن نتغنّى بإحدى أنبل أفضاله علينا، وهي: فرصة أن نخلو بأنفسنا!.

فالحقّ أن النصيب الأعظم من نشاطنا لا ننفقه في قضاء حوائجنا الدنيوية كما يروقنا أن ندّعي، ولكننا نستهلكه في الإحتيال، لكي نفرّ من مواجهة أنفسنا.

ماذا يعني أن نجتنب مواجهة أنفسنا؟

الواقع أن مسلكنا كلّه برهانٌ صريحٌ على الفرار من هذه المواجهة، لأن الحضور في حضرة النفس، هو حضورٌ في حضرة القاضي، حضورٌ في حضرة المحكمة: محكمة الضمير التي لا تعترف بمرافعة المحامين الذين نستجلبهم في القضاء الدنيوي لكي يخترعوا حجج الزور بالإنابة عنّا، طمعاً في تبرئتنا من آثامٍ نعلم يقيناً أننا معجونون من طينتها. ولكن المثول في ملكوت النفس، هو مثولٌ في حرم الرسول الذي استودعته الربوبية فينا، لكي يكون على أفعالنا شاهد عيان، وفي دنيانا وصيّاً، وفي المساءلة حسيباً، كما هو: الضمير، وهو وحده المخوّل لأن يستصدر في حقّناً الأحكام لا على الخطايا في حقّ الأغيار، لأن تلك آثامٌ من صلاحيات القوانين الوضعية، ولكن الأحكام على الجرائم التي اعتدنا أن نقترفها في حقّ أنفسنا مثل الإستهانة بالوقت، والكسل، والترف، والعبث بتلك الكنوز التي نلناها على سبيل المجّان كالماء، والهواء، والطاقة، والتراب الذي ندنّسه كل مطلع شمس، وننسى أننا معجونون من طينته، ولا ندرك كم هي اليابسة ملاذٌ مقدّس، ما لم نخضع لمحنة غرق، كما لا نتخيّل قيمة الغمر، ما لم نعِش درس الظمأ. ولهذا السبب نرفض أن نرتدع ما لم نُجبَر على المثول في محكمة الضمير بالسلاسل، والسجن هنا بمثابة حكم عادل، جدير بأن نفرضه على أنفسنا، بدل أن ننتظر السلطات كي تهبه لنا من باب الإحسان، كي تجيرنا من أنفسنا في حال اقترفنا جرماً في حقّ أغيار، أو تفرضه على الجميع كما في حال الخوف من انتشار الوباء، وكم سنكون مدينين لهذه السلطات في حال سنّت تقليداً حميداً، تستطيع بموجبه أن تفرض علينا السجون لتجيرنا من استهتارنا، وتجبرنا على مواجهة أنفسنا لأنها ربّما أفلحت، بهذه الحيلة، في ترويضنا على الفضيلة، لتكسب بهذا القصاص ما اعتدنا أن نسمّيه في أدبيّاتنا: المواطن الصالح!.

الثلاثاء: 17 مارس 2020م

الوباء أيضاً مدينٌ لنا بإحسان، كما كشف لنا الحظر، كما كان مديناً لنا بالحضور في حضرة أنفسنا، ومدينٌ لنا بالعزلة، الرديفة في معجم الحكمة، للحرية. فما يجب أن نعترف به لهذا الضيف الثقيل هو تمزيقه لورقة التوت التي كانت تستر سوأة هذا العالم المكابر الذي فعل كل ما بوسعه كي يقنعنا، عبر الأزمنة، كم هو ماردٌ لا يُقهر، ليس هذا وحسب، ولكنه نصّب نفسه سلطاناً على الطبيعة، مردّداً حُجّته القائلة بأن من حقّه أن يأخذ منها غصباً، ما بخلت بأن تهبه له طوعاً. لم يكتفِ هذا السليل الضالّ بهذا التجديف في حقّ طبيعةٍ هي له أمّ، ولكنه لم يتردّد في أن يعدّ العدّة لغزو الربوبية ذاتها في عقر دارها، كي يبرهن لنا على حصانته المزعومة من شرور ما تبدّى في هذا الكون وما استخفى، فإذا به يتجرّع مرارة أبشع هزيمة على يد عدوّ وضيع لا يمكن أن يقارن، من فرط زهده في الجرم، إلاّ بالعدم!.

فهل تستطيع الصدمة أن توقظه من نعيم استكباره، فيذهب ليكفّر عن خطاياه في حقّ أمّه الطبيعة، علّ التوبة تفلح في تطهيره من خزيه، فيعود إلى صوابه أخيراً؟.

الأربعاء: 18 مارس 2020م

ثقل الحصار ليس في الحرمان من الحرية، حرية التنقّل هذه المرّة، ولكن في القدر الفائض عن الحاجة من غنيمة الحرية. فالسجن يكفل الحرية في حدودها القصوى. وأحسب أن قصاصه ليس في الحرمان من المرأة (كما غريب كامو)، ولكن في الحرمان من العبودية، لأن التجربة برهنت أن الحرية هي العبء الذي لا يُحتمل، فيما إذا قورنت بعدوّتها العبودية.

ونحن نتخابث، ونتفنّن في ممارسة الخداع، عندما نتغنّى بالحرية، لأننا لا نلبث أن نخفق في أول اختبار تجود به الحرية، بدليل أننا نستثقل وجودنا، ولا ندري ماذا نفعل بأنفسنا، حتى أن الشجعان منّا لا يتردّدون في أن ينتحروا طلباً للخلاص من وزر الحرية. أما فئة ضعاف النفوس منّا، فتفرّ إلى اللهو، فإن عدمت اللهو، اخترعت اللهو، فإن أخفق شبح اللهو تفوّقت على نفسها في اختراع كل ما من شأنه أن يغيّبها عن واقعها، وينفيها عن استجلاء حقيقتها، لأن الإغتراب عن الذخيرة الروحية المنسيّة فينا، سبب كافٍ للوقوع فريسة جحيم إسمه باطل الأباطيل!.

وعندما يتكرّم جناب الوباء، فيجود علينا بالنصيب الأوفر من الحرية، بحرماننا من التسكّع في الطرقات بدعوى زائفة هي التواصل مع ذي القربى، فإنه يسيء إلينا، من حيث ظنّ أنه أحسن إلينا؛ لأن قلّة القلّة وحدها تستطيع أن تعترف للوباء بهذا الإحسان، لأنها عرفت كيف تروّض في نفسها النفس الأمّارة بالسوء، بأن تستغلّ العزلة في الشأن القدسيّ الذي خُلقت من أجله، فتتفرّغ، على طريقة البراهمانات، لمحاورة القرين الذي يسكنها، وتروّض حواسّها، لاستطلاع حدسها، لتكتشف، بتفويض الحدس، البُعد المفقود، لأنه حجر الحكمة في المعادلة، فلا تتزعزع بهولٍ عندما تلتقط من فم المجهول نبوءةً عصيّة تقول: "طوبى لمن عرف الحقيقة في الصباح، لأنه الوحيد الذي لن يضيره أن يهرع في المساء كي يموت!".

الخميس: 19 مارس 2020م

الوباء يأبى إلاّ أن يلقّن عالمنا الهشّ درساً. الوباء قطبٌ يتحدّى قطبين: قطبٌ العالم فيه طاغية، وقطبٌ آخر الفرد فيه ينتحل لنفسه صلاحيات أعتى الطغاة عندما يتحرّر من المسئولية الأخلاقية، ويجيز لنفسه كل شيء على حساب المجتمع، وعلى حساب مبدأ الدولة، وعلى حساب الإنسانية، وعلى حساب المشيئة الإلهية، بدعوى معبود العولمة الجائر، المدعو في أدبيّات الحداثة: حرية الفرد. وما فعله الوباء هو قيامه برجم هذا المعبود بحجرٍ ليس ككل حجر، عندما تجاسر ووضع لحرية الفرد، أو ما نسمّيه حرية فرد، حدّاً، ليهرع العالم لنجدة المعبود المزوّر، لأن خللاً أصاب كلمة السرّ التي يقوم عليها عالم العولمة: حرية الفرد. حرية الفرد لا في حدود العقل، لا في حدود المنطق، لا في حدود القيم الأخلاقية، ولكن في بُعدها المطلق الذي لا يعترف بناموس، ولا بربّ الناموس! هذا المخلوق المدلّل، المخدّر المائع، الأناني، هو ما استهدفه الوباء كي يوقظه من غيبوبته، ليهمس له بحقيقته الطفولية، عندما فجعه في قدسية حريته الشخصية.

فكيف لا يستنكر هذا المهرّج الذي نصّبته القوانين معبوداً من حقّه أن يستبيح كل شيء، وليس من حقّ شيء أن يقترف في حقّه أي شيء؟ كيف لا يقيم هذا الكائن المؤلّه القيامة عندما تطلّ من المجهول القوة الخارقة التي لا تعترف لا بالقوانين، ولا بالمعبودات المزيفة، فتقول كلمتها في المهزلة، بتحجيم البهلوان، وتضع في طريقه الحدود؟
ففي حمّى الهوس بـ"حقوق الإنسان" ضحى العالم بالقيم التي تغنّت بها الإنسانية منذ نشأتها، ونصّبتها الديانات السماوية مقياساً لكل الأشياء، لا لشيء إلاّ لأنها قررت في أحد الأيام أن تستنزل الألوهة من عروشها، لتستبدل معبود الحقّ بمعبود البهتان، حتى إذا حصحص الحقّ، وزهق الباطل، وأقبل الوباء بالدرس، وجدت سلطات الأمم نفسها عاجزةً عن السيطرة على جنون بهلوانها كي تحميه من شرور غروره، برغم كل الحيَل، وبرغم فنون المغريات المستخدمة لترويضه على النظام الكفيل بخلاصه من كيد عدوّ لم يعترف يوماً بوجوده، فكيف يعترف بحقوقه أو ربوبيته أو بقية أوهامه؟.