يضحي الأطباء بكبار السن من أجل الحفاظ على الشباب، وكأن العجائز لا حق لهم في الحياة!  يندهش الشرقيون، الذين اعتادوا على تلاحم الأسرة، حينما يسمعون عن رمي كبار السن في ردهات المستشفيات، لأن لا مكان للمرضى الشباب! يصابون بفزع، ويطرحون أسئلة عن الضمير الغربي، بينما يرد الغربي بأن لا حيلة له في ظل نقص المعدات الطبية ومحدوديتها.

يزداد الأمر تعقيدا حين يراقب الشرقي كيف أن الغرب أصبح يقتتل على الكمامات وأجهزة التنفس وأدوات التعقيم، ويتم خطف سفن من عرض البحر، وقرصنة شحنات طبية محملة في شاحنات على الحدود.

فجأة اكتشفنا أن هذا العالم يعود إلى أصله الأناني، إلى عقلية صياد الفرص، وصراع العيش للأفضل. فقدت الحكومات مُثُلها الفاضلة العليا في القيادة، وتحولت إلى متوحشة مستعدة للتضحية بالملايين ضعيفي المناعة من شعوبها، كي تعيش ملايين أقوى جسديا!

لا أعلم هل نحن من استغرق في حلم طويلا ويستيقظ الآن بعد أن هز الفيروس سريره السادر، أو أن هذه الحقيقة وما يحدث ليس بستغرب، فالسياسة فن الممكن، وهي تحديدا فن إدارة القوة.

لا يجب أن ندع الأمر يمر وهو يتهادى غير مكترثٍ لأسئلتنا؛ نحتاج إلى أجوبة واضحة، والأهم نحتاج أن نقول للغرب أن الواقع الذي يعيشه في السباق نحو البقاء، تعيشه أنظمة وشعوب غيره، تهددها أخطار خارجية وداخلية، فإن تصرفت بما يماثل التصرفات الغربية الآن، فلا يستغربنّ الغرب - وخاصة غُرَز اليسار و دكاكين الحقوقيين.

في هذا الوقت الحزين، أتذكر الباحث الأميركي ريتشارد هرير دكمجيان، حين كان يستعرض إرث جمال عبد الناصر وما يكتبه زملاؤه الغربيون. كان ينتقدهم بشدة  ويرى حتمية حدوث تشوّه حين يتم استخدام النظريات والمفاهيم الغربية لدراسة الظواهر غير الغربية، والعكس كذلك حين نقوم كشرقيين باستخدام مفاهيمنا لندرس ما يحدث في الغرب.

هكذا إذنا يتوجب علي ألا استعمل المُثُل الشرقية لتقييم الغرب؛ لكن ماذا لو وجهنا أسئلة صريحة لأنفسنا؟ ماذا لو هجمت علينا الفيروسات بشكل لا تطيقه استعداداتنا ومنظوماتنا الصحية، وواجهنا نفس الخيارات التي واجهت الأطباء في إيطاليا؟ ماذا لو كان مجتمعنا مفتوحا ورافضا للتقييد، ويستهين بالدولة كنظام يقنن حرياته واعتاد رفضها؟ هل سنغضب حين يتخذ القائد قرارا بأن الجائحة ستنال من مجتمعنا شئنا أم أبينا، في وقت لا تملك البلاد أي تجهيزات تحمي الملايين، مما سيضطره إلى النزوع لسياسة أن التحصين أفضل السيناريوهات؟

كيف سيواجه أي زعيم، لديه أغلبية تعيش لكسب قوت يومها والعيش به، توفير لقمة العيش لعمال وموظفين لا يستطيعون الخروج والعمل بيوميتهم؟ كيف سيدير القائد اقتصاد وطن في ظل تقييده لحرية الشعب في الخروج إلى العمل وتفعيل عجلة الاقتصاد؟

ينزع خبراء بريطانيون إلى تأييد استراتيجية ترامب وجونسون، بأن تعطيل الاقتصاد سيؤدي إلى فواجع ووفيات تفوق ما سيحدثه فيروس كورونا المستجد؛ فكيف لو جمعنا الكارثتين معاً: اقتصاد معطل وناس بلا قوت يومهم، وفيروس يوغل فيهم قتلا وتدميرا؟

ما يحدث الآن على كل المستويات الماكرو والمايكرو، يوافق ويؤيد نظريات العالم جون واطسون مؤسس المدرسة السلوكية، بأن العقل الإنساني صفحة بيضاء أو لوح أملس، يخط عليه بشروط البيئة المحيطة به، لا بالأفكار والاعتقادات والرغبات والمشاعر، وفي وقت تلعب فيه مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي دورا مهما في تشكيل عقلية الناس، يفترض بنا ألا نتوقع الجنوح للمثالية، حين تمر بالناس جائحة، ويرتفع مؤشر الهلع في المجتمع، ستهرع الأغلبية إلى انتزاع ما يحميها، حتى وإن كان الصراع على مناديل الحمام.

هل حان الوقت لنودع عالم عشنا فيه نتطلع لقيم الإنسانية الرحيمة، وأصبحنا في عالم لا يرحم أكثر مما كان؟ هل لعبت وسائل التواصل الحديثة في جعلنا مجتمعات مندفعة بأنانية، لا تقيدها أنظمة الدولة، لأن الدولة هي نفسها - كما في حالات غربية - تسبق شعوبها نحو الهلع والأنانية؟ رحماك ربي.