وهو لذلك شدّد على أنّ الثّورة، في العالم المعاصر، باتت تتجسّد في السِّلَع وفي العائدات التي تنجم من تسويقها. اليوم، وبعد ما يزيد قليلاً عن قرنٍ ونصف من مقولة ماركس، تَحوَّل معنى الثّروة وتبدّياتُها المادّية فلم تَعُد السّلعَ، بل أصبحت المعارف.

المعارفُ اليوم هي الثّروات الأساس للأمم، وهي كذلك منذ شهد نظامُ إنتاج القيم المادّيّة على تحوُّلٍ انعطافيّ فيه نتيجة دخول التّنميّة العلميّة في نسيج التّنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وصيرورتها قاطرة القيادة لسيرورتها، بعد إصابة النّجاح في تطبيق نتائجها في ميادين الحياة كافّة. قد يجوز، هنا، أن تُحْسَب المعارف في جملة القيم اللاّماديّة، إن نحن نظرنا إليها كمنتوجات علميّة للفكر الإنسانيّ (وهي لَكذلك من غير شكّ) غير أنّ طَاقَتها التّطبيقيّة، وما يتولّد منها من نتائجَ ومنتوجات، تحوِّلُها إلى قيمٍ ماديّة أو، قل، إلى فعّاليّة تُنتج القيم الماديّة.

على أنّ المعارف لا تلبث أن تصبح، هي نفسُها، وفي منطق نظام التّبادل التّجاريّ، سلعاً تُتَداوَل؛ تُبَاع وتُشتَرى. غير أنّها تكون من نوعٍ من السِّلع نفيسِ القيمة، قياساً بغيرها من السّلع، ولا يقوى على اقتنائها إلاّ من تتيحُ له مواردُه الماليّة الهائلة ذلك. ماذا تكون المنتوجات الصّناعيّة عالية القيمة والمقتنيات التّكنولوجيّة غير تلك السّلع الثّمينة؟ غير أنّ ثمّة ما هو أثمن من ذلك؛ إنّه الخبرة العلميّة والتّكنولوجيّة التي تُعْرَض كقيمة على من يملكون اقتنائها. وهذه متنوّعة، كما أنّ منها ما يُقَدّم انتقائيّاً وما لا يَقْبَل التّقديم حفاظاً على الأمن العلميّ لمنتِجها.

لم تكن صيرورةُ المعارِف إلى هذه الحال محضَ متغيِّر جديد في تاريخ التّنميّة ومواردها وفواعلها الجديدة يشبه غيرَه (اكتشاف الذّهب، أو النِّفْط والغاز...)، وإنّما أتت تُؤْذِن بتحوُّلٍ جذريّ في بنية عمليّة الإنتاج وقواها. من أجل أن ندرك ذلك، على الحقيقة، لا مناص من المقارنة بين شروط الإنتاج في عالَم الأمس وشروطه في حقبة - ما بعد الثّورتَين الصّناعيّتين الثّالثة والرّابعة، منذ أربعين عاماً. طوال تاريخ البشريّة، توقّف الإنتاج دائماً على قوّة العمل (اليدويّ)، سواء عمل العبيد - في مجتمعات العبوديّة - أو عمل الفلاّحين، في المجتمعات الزّراعيّة، أو عمل العمّال، في المجتمعات الصّناعيّة والرّأسماليّة، فكان يتحدَّد قيمةً، في الكمّ والنّوع، بمدى حيازته قوى العمل الكافية، ومدى ما تتمتّع به من كفاءة، وخاصّةً بعد أن فرض الإنتاج الصّناعيّ معايير جديدة للكفاءة غير معهودة من قبل (= مستوًى مقبولاً من التّأهيل الفنّيّ المناسب لنظام العمل الجديد).

بعد العام 1980، مع انطلاق الثّورة الصّناعيّة الثّالثة وما أدخلتْه من إمكانيّات رقميّة جديدة (الحواسيب، شبكة المعلومات العنكبوتيّة، تِقانة الاتّصالات والمعلومات)، ومع الثّورة الصّناعيّة الرّابعة، خاصّةً، وفتوحاتها الرّقميّة الكبرى (الروبوت، الذّكاء الاصطناعيّ...)، لم يَعُدِ الإنتاج في كبيرِ حاجةٍ إلى قوّة العمل اليدويّ، بما فيها رفيعة التّأهيل؛ فلقد باتت المعارف تقوم مقامها في صورة قوّة عملٍ ذهنيّ (فكريّ) هي التي تدير الإنتاج وفقاً لنظام بَرْمَجَةٍ آليّ وإلكترونيّ دقيق. إذا كانتِ الآلة قد عوّضتِ العمل اليدويّ، أو حدَّت من شدّة الحاجة إليه، قبل قرنٍ من اليوم، فلأنّ الآلة جسّدت، حينها، القدرةَ العلميّة التي استُدْخِلت في ميادين التّصنيع والإنتاج. وإذا كان الإنسان الآليّ والذّكاء الاصطناعيّ يكادان أن يستغنيا - نظريّاً-حتّى عن العمل الذّهنيّ للمهندسين والخبراء التّطبيقيّين، اليوم، فلأنّ المعارف هي ما أنجب هذا التحوُّل الهائل في النّظام الوسائليّ الإلكترونيّ.

ليس معنى هذه السيرورة الظّافرة للمعارف وتطبيقاتها في ميادين الحياة والإنتاج أنّها سترتدّ على الإنسان نفسه، حين تُقصيه من ميادين العمل وتعتاض عنه بنُظمٍ آليّة تستقلّ بنفسها عنه، فتصبح هي نفسُها ما يخطّط ويبرمج وينفّذ بـ «معْزل» عن تدخُّله أو عن إرادته؛ ذلك أنّ الذّكاء الاصطناعيّ خاضع، في النّهاية، لنظام المعرفة الذي أنتجه، والذي يمكنُه تعديلُه إن شاء ومتى شاء. ما من شكٍّ في أنّنا لا نستهين بالنّتائج الاجتماعيّة القاسية التي ستُولّدها هذه الثّورات التّقانيّة على الإنسان والعمل، كما لا نستهين، مثلاً، بعقابيل الثّورة البيولوجيّة والهندسة الجينيّة على طبائع الإنسان والحيوان والنّبات والغِذاء، غير أنّا نؤمن - في الوقت عينِه - بقدرة العلم على كبح جنونه وترشيد إنتاجه وحركة نشاطه... وأنْسنتها. ولكنّه التّعويلُ غيرُ القابل للتّحقّق إلاّ متى ما أُحرِزَ تقدُّمٌ حقيقيّ في كبْح جِماح المنزِع الغرائزيّ الرِّبحيّ في النّاس، وفي أَخْلَقَةِ مبادراته.