لأن الطبيعة التي أتحفتنا بالأمس هي أيضاً مَن يرفع في وجوهنا اليوم راية التحدّي في وجه الوباء، لتبشّرنا بالبعث، بأمل الخلاص من الوباء، مترجماً في حرف عَوْدٍ أبديّ هو في طلعته بسيط، ولكنه في دلالته بليغ، كما هو الحال مع: الربيع.

فالطبيعة التي اغتربنا عنها تنادينا من وراء قضباننا هذه المرة، لنحاورها كما لم نحاورها يوماً، كأننا نكتشفها لأول مرّة. بعد أن اختلسنا منها مارد العولمة، الذي لقّننا الميوعة، وحقننا بورم الهوس بالتقاليع، لتتحوّل القيم الإنسانية في حياتنا مجرّد موضة، نستبدلها حسب مشيئة الموسم، حتى إذا تنازلنا اليوم، واعترفنا أخيراً بانتمائنا إلى هذه الأمّ، بل ببنوّتنا لهذه الطبيعة، فإن ما يجب أن نفعله ليس مجرد القبول بتوبة السليل الضالّ، ولكن استغفار هذه الأمّ، وعمل ما بالوسع للتكفير عن الآثام التي اقترفناها في حقّها طوال هذا  الغياب، لأن الفردوس الضائع الذي نتغنّى به، ليس حلماً رومانسياً غيبيّاً، ولكنه في متناول اليد، لأننا نسكنه، كما يسكننا، كل ما علينا أن نفعله هو أن نصحو من غيبوبتنا، ونرتدّ إلى أنفسنا، كي يهرع لنجدتنا، لأننا لن نكتشف حقيقة الطبيعة التي نسكنها، ما لم نستنطق الطبيعة التي تسكننا. وما الجائحة التي تحاصرنا، وتضيّق الخناق على باطلنا، سوى حكم الطبيعة الذي استصدرته في حقّنا، كي تعيدنا إلى صوابنا، تعيدنا إلى بيتنا الذي دنّسناه بغيبوبتنا، لنتلو فيه صلواتنا، بعد أن أجبرنا باطل الأباطيل على تأدية صلواتنا في بُعد الحرف، في بُعد الجماعة، في جامعٍ هنا، في كنيسٍ هناك، أو في بيعةٍ هنالك، لأن صلوات الشعيرة هي صلوات الحرف، والحرف ليس هو ما يعوَّل عليه لأنه بالسليقة مميت، ولكن الصلاة في معبد النفس، وحدها صلاة الخلاص، لأنها الصلاة في حرم الروح. وها هو رسول أمّنا الطبيعة الوباء يحكم في حقّنا بتأدية صلاة الواجب، بالمثول في بلاط الحقيقة. فهنا، في هذا الوطن المفقود، بقدر حضوره في بُعد الوجود، يسكن كل شيء: يسكن الحسّ، كما يسكن الحدس؛ يسكن الوسواس كما يسكن الضمير؛ يسكن القصاص كما يسكن الخلاص؛ يسكن الجحيم، كما يسكن النعيم. كل ما علينا أن نفعله في مسيرنا، هو أن نحكّم في الطلب دليلنا: نسلّم زمام أمرنا للأمّ التي أنكرناها، وها هي تستنزلنا، بالوباء، منزلة الأعراف كي نتطهّر من ذنوبنا.

الإربعاء 15 إبريل 2020 م

في الأيام الأخيرة أخرس الوباء حتى كلب الجار المسعور، فتوقّف عن نباحه المزلزل، ليهدي لي معروفاً انتظرته ثمانية أعوام. فما فعله الوباء هو فرض البقاء على صاحب الكلب في البيت، فصام الكلب عن النباح. صام الكلب عن جنونه الذي يصمّ الآذان، ويزعزع أركان بنياننا، لأن سيده لزم سكنه، ولم يعد يخرج حتى يضطرّ لممارسة طقوس استقباله بذاك الإحتفاء، تعبيراً عن إحساسٍ ليس فرحاً بعودة الأنيس كما يتوهّم صاحبه الأبله، ولكن بالتحرر من كابوس العزلة. التحرّر من عزلٍ مفروضٍ بالبقاء قيد الحظر. وما نواحه الفاجع، عند غياب الزوجين وبقائه في البيت وحيداً، إلاّ بمثابة تعبير عن احتجاج، عن استنكار إبقائه سجيناً، ناسياً أن ليس له أن يلوم في هذه المحنة إلاّ ضعفه، بتنكّره يوماً لهويّته كذئب، وقبوله لهويّة كلب، قدره أن يكبَّل بأغلال العبودية مقابل نيل الطعوم من يد طاغيةٍ لم يتردّد في أن يسخّره لمقاتلة بني جنسه الذين ضلّوا على وفائهم لحرّيتهم، ولكنهم مضطرّون لانتزاع قُوْتهم بأنيابهم، لا بأنياب سواهم، ممّا قد يكلّفهم حياتهم. فنعيم الكلب هنا صفقة مدفوعة بمقابلٍ باهظ التنازل عن الحرية فيه مجرد منزلة، ولكن الأسوأ فيه هو التنازل عن الهويّة البريّة، التي لا تتوقّف عند قبول العبودية، ولكنها تأبى إلاّ أن تقطع في المراتب شوطاً أبعد، عندما تنصّب العداء للسلالة الأصلية شرطاً لإتمام بنود الصفقة.

ولهذا فشقاء الكلب قدَرٌ مركّب، يكفي أنه مخلوقٌ مزيّف، وعندما يستجير الإنسان بلفظة "كلب" في حقّ أخيه الإنسان فإنه إنّما يدين فيه طبيعة الزور، اللصيقة بهذا الحيوان الملتبس.

فالكلب مخلوقٌ خائن. وما الوفاء الذي اشتُهر به سوى تكفيرٌ عن خطيئة في حقّ أبناء جلدته!

الإربعاء 25 إبريل 2020 م

الوباء يتمادى عكس التوقّعات. والأجواء بئيسة، برغم البشارة في غصن البتولا، كأنّ الطبيعة تتباهى بتعاطفها مع الوباء، وتتبنّاه كرسولٍ مفوّض بفرمان جلالتها، كأن حجم القرابين التي سقطت حتى الآن لم تشترِ آثامنا في حقّها، لتتواصل ملحمة القصاص الفجيع، وليس لنا إلاّ أن نستسلم في انتظار الخلاص على طريقة "أوليس" في استسلامه لانتقام "بوسيدون" الذي لم يكفّ عن التنكيل به، جزاء خطاياه في حقّ سليله، إلاّ بعد أن يئس البطل واستجدى ربّ البحور أن يكتم فيه الأنفاس، وينتزع الحياة، ليأتي جواب الإله، مشفوعاً بموقفٍ يليق بالإله، مشفوعاً بموقفٍ يليق بالآلهة، عندما قال: "سلب روحك لم يكن لي غايةً يوماً، كل ما استنزلتُه في حقّك من قصاص إنّما أردت به أن أعلّمك ماذا يعني أن يحيا الإنسان بلا وطن!".

ما نعيشه اليوم ترجمة أمينة لوصيّة بوسيدون الموجّهة للبطل أوليس، لأن ما نشهده هو قصاص الطبيعة في حقّ أناسٍ ضلّوا السبيل إلى الوطن، ضلّوا السبيل إلى أمٍّ هي دوماً، بمنطق الأشياء، وطن أوطان، وليس للسليل الضالّ إلاّ أن يعترف بضلاله أوّلاً، يعترف به لنفسه أوّلاً، قبل أن يُقبل على الأمّ، لكي يستجدي الغفران، عليه قبل كل شيء أن يبرّيء ذمّته أمام محكمة الضمير، لأنها بوابة الحرم، الناطقة بكلمة الحقيقة، التي تلعب دور الأعراف في معراج التوبة، قبل أن يُسمَح له بالمثول في بلاط الأمّ، التي رجمها، طوال رحلته، بكل صنوف الدنس، لتبرهن لنا، بامتحان هذه الأيام، أن غنائم الدنيا كلّها سفسافٌ مُخجِل إذا قورن بوقفةٍ للحظةٍ واحدة في محرابها، سواء أكانت نزهة في حقل الزيتون بالجوار، أو إطلالة على بحر أوليس الأسطوري، أو حضوراً في جبال "بارانايوس" المجيدة؛ لنكتشف أننا مازلنا على دين سلف الأسلاف آدم الذي لم يدرك أن الوطن فردوس فراديس، إلاّ عندما اغترب عن الوطن، بحرف الإثم!

الخميس 16 إبريل 2020 م

محرّر هذا البيان اليوم أيضاً "أوليس" فإذا كان أوليس قد أضاع وطناً واحداً هو "إيثاكا"، فمحرّر هذا البيان أضاع في رحلته العصيّة حزمة أوطان. على رأس هذه الأوطان يستقرّ بالطبع عرش الصحراء الكبرى، لا لأنها مسقط رأس، ولكن لأنها وطن الرؤى الإلهية التي شرّدني من حرمتها مفعول القنابل النووية الفرنسية في خمسينيّات القرن العشرين، فإذا بشخصي يهيم على وجهه في أرض الله الواسعة، فلا يهنأ بالاً، طوال هذا السباق المحموم، بحثاً عن الوطن الضائع، الذي أضحى مع مرور الأعوام رديفاً شرعيّاً للفردوس المفقود، لا في دلالته الغيبيّة وحسب، ولكن في صيغته الأرضية أيضاً، بعد أن فقد الأمل في استعادة وطن الرؤى نهائياً بسبب اغتراب الصحراء القسري، حيث استزرعت فيها فرنسا الإستعمارية وباءً مميتاً آخر هو الإرهاب، ليكون خليفتها الجدير بمواصلة مشروعها النووي الخبيث لإبادة ما تبقّى من أهل وطبيعة هذا الوطن الذي كان نواة التكوين، لتبدأ مسيرة تيهٍ لم يُكتب له أن ينتهي إلى هذا اليوم؛ لأن كل الأوطان التي تخلّلت هذا التيه، كانت بمثابة محطّات لالتقاط الأنفاس في سيرة هذا الإغتراب الطويل، بدايةً بواحات ومدن ليبيا، ونهايةً بشبه الجزيرة الإيبيرية، مروراً بما وراء الستار الحديدي، أو المقام بحاضرة حلف وارسو، أو العودة الثانية إلى أرض الدَّيْلَم، أو نزول رحاب الألب السويسري. ذلك أن حبل السرّة، الذي نسمّيه مسقط رأس، يحتفظ بسريانه في شرايين الدمّ كأحجيةٍ غيبيّة طوال هذا الفرار، الذي نحسبه فراراً من هذه الشفرة، ولا نكتشف أنه فرارٌ نحو الشفرة، بحثٌ محمومٌ عن الشفرة، إلاّ في نهاية المطاف. فما ينام فينا عميقاً هو طبيعة حبل السرّة، السجيّة الكامنة في مسقط الرأس، لغز البيئة التي كانت نواة تكويننا، وسلطة الحدس الذي لفّق كينونتها، لفّق طينتها، إلى الحدّ الذي تنقلب فيه هاجساً، المثول في محرابها حلم. وكل محاولة لاستبدالها، في حمّى السباق الماراثوني المميت، بأوطانٍ أخرى، أو بالأصحّ، فردوس بيئةٍ أخرى، هو مغامرة لاستبدال الأصل بالظلّ، بالشبح، بالشّبه، حتى إذا أعيتنا الوسوسة، وقرّرنا اللجوء لبلاط العدالة، فحكّمنا الضمير في المعادلة، فوجئنا بحقيقة محاولاتنا في إنكار هويّتنا الطبيعية، هويّتنا البيئيّة، التي لن تكون في حرفها سوى تجديف. ضرب من خيانة في حقّ الأمّ، في حقّ الطبيعة الأمّ، التي اختارتنا يوماً، ولم نخترها. وأن تختارنا هي يعني أنها قَدَرٌ لا مفرّ من الإعتراف به، مادمنا لم نملك فضلاً في إقراره. ولهذا السبب فإن أيّ عَوْدٍ لوطن، هو استجابةٌ لنداء الطبيعة فينا، هو عَوْد الإبن الضالّ إلى حرم أمّ، عَودٌ إلى حضن الأمّ. الأمّ التي ترابط في وجوم عرّافة معبد دلفى، تنتظر أبداً حلول الميعاد الذي ستهنأ فيه بعودة سليلها الضالّ، فإن لم يُقبل عليها حيّاً، فلن تنكره إذا تلقّته ميّتاً!