إنّما هي مساحة تشكّلت في امتداد علاقات الحاضر وما اكتنفها من ظواهرَ وحوادثِ صدام. وعليه، لا يكفي أن نعلّق سوء العلاقة على مشجب الماضي ونبرّئ ساحة عربِ اليوم ومسلميه، من جانب، وغربيّي اليوم، من جانبٍ آخر، ممّا جرى وانتهت إليه العلاقة بينهم من آفاق مقفَلة، بل من آكَدِ الواجبات أن نَضَع عوامل الحاضر موضعَ فحصٍ نقديّ، من أجل أن نتبيَّن - على التّحقيق- مواطنَ الخَلَل والعُوار فيها، ومن أجل تصويبها أو الحدّ من درجة استفحال تأثيراتها السّلبيّة.

لا بدّ، في هذا الباب، من الاعتراف بأنّ المسؤوليّة عمّا طرأ على هذه العلاقات من تأزُّم مسؤوليّةٌ متبادلة؛ ولا بدّ من أن نعرِّف بها وبوجوهها المختلفة من دون أن تنزلق إلى محاولاتالتّمييز بين مستوياتها، أو بيان تفاوُت مقاديرها، أو مَن تقع عليه أكثر من غيره؛ لأنّ في ذلك استدراجاً للوعي إلى التّبرير. وسنحاول تلخيصالمسألة بعرْض أهمّ مفاصل السّياسات والأفعال التي قادت، من الجانبيْن، إلى تأزيم العلاقة.

ما من شكّ في أنّ السّياسات الغربيّة، بعد حقبة الاستعمار وإقامة دولة إسرائيل في قلب الوطن العربيّ؛ أعني: في الخمسين عاماً الأخيرة، لم تكن متوازنةً ولا عادلة تجاه العالميْن العربيّ والإسلاميّ؛ تجاه حقوق شعوبهما وسيادتها على أراضيها وثرواتها وطموحات نُخبها الوطنيّة في التحرُّر من الهيمنة وحيازة استقلال القرار الوطنيّ. وما من شكٍّ في أنّ المجتمعات والشّعوب الغربيّة لم تكن مسؤولة، دائماً، عن سياسات نُخبها الحاكمة؛ فلقد تصرّفت هذه بمنطق القوّة، واعتبرتْها عاملاً يخوّل لها الحقّ في إتيان سياسات مجحفة و، أحياناً، ظالمة في حقّ أممٍ بكاملها، مستفيدةً ممّا يمنحُهُ إيّاها النظامُ الدوليّ القائم من امتيازات سياسيّة وقانونيّة. وإذا كانت سيرةُ هذه السّياسات مع حقوق شعب فلسطين والشّعوب المحتلّة أراضيها معروفة- لجهة تجاهُلها إيّاها ودعْمها المحتلّ- فإنّ السيرةَ تلك توّجتْ نفسَها بخوْض حكومات الغرب حروباً ضدّ بلدانٍ من ذينك العالمين (العراق، الصومال، أفغانستان، ليبيا...) واحتلال بعضها، وإطلاق جماعات الإرهاب تُعْمِل فتكاً في كياناتها.

على أنّ محنة العالميْن العربيّ والإسلاميّ مع السّياسات الغربيّة وجدت لنفسها بعضَ الترجمة، داخل بلدان الغرب نفسها، في شكل محنةٍ لمهاجريها مع تيّارات العنصريّة وقواها المحليّة. ومع أنّ السّياسات الغربيّة لم تكن مصدراً للموجة العنصريّة فيها، لأنّ هذه تمتح أسبابَ وجودها وقوَّتها من تَعاظُم صعود قوى اليمين المتطرّف، إلاّ أنّ سلوك السّياسات تلك العَدَاء تجاه العرب والمسلمين، والتّهويل المبالَغ فيه من «الخطر الإسلاميّ»، غذّى المشاغر العنصريّة بوقود الاشتغال والاشتعال. والنّتيجة، اليوم، أنّ القوى اليمينيّة المتطرّفة والعنصريّة لم تعد تهدّد العرب والمسلمين المقيمين في مجتمعات الغرب، فحسب، بل تهدّد التوازن السياسيّ وسلطة النّخب القائمة، وتهدّد- أكثر من ذلك- قيم الغرب نفسه: التّسامح، المواطنة، حقوق الإنسان، الحقّ في الاختلاف... إلخ.

ليس جائزاً، في المقابل، أن نتجاهل محنة المجتمعات الغربيّة مع الأفعال النّكراء للجماعات الإرهابيّة النّاطقة، زوراً، بلسان الإسلام؛ لقد ذاقت من كأسها المُرّة في قلب عواصمها ومُدنها، في أكثر من مناسبة، وبات خوفُها منها متفاقماً إلى حدّ الهُجاس. وهو خوفٌ مشروع من غيرِ شكّ، وبمعزلٍ عن كـيف أصبـح مادّةً للاستثمار السّياسيّ. وعليه، حين يتحسّـس مواطـنٌ غـربيّ من الإسلام - الذي يتخيّله مسؤولاً عمّا يحصل له- أو من مُواطِنِه المسلم، فعلى الجميع أن يتفهّم أنّ الخوف هذا يستند إلى وقائعَ بعينها نُكِب فيها (هي العمليّات الإرهابيّة)، وليس إلى موقفٍ عدائيّ مسبق من الإسلام بالضّرورة. أمّا سياسات الحكومات فتجد في سوابق الإرهاب تلك حجّة تتعلّل بها لتطبيق سياسات مصمَّمة سلفاً ضدّ بلدان بعينها في العالميْن العربيّ والإسلاميّ، أو لتقييد الهجرة منها، فتبدو سياساتُها، عند ذلك، وكأنّها دفاعٌ مشروع عن النّفس في عيون مواطنيها.

والحقّ أنّ مجتمعات العرب والمسلمين ودُولهم مسؤولة، بدرجاتٍ مّا، عن نكبة مجتمعات الغرب من الإرهاب بنفس مقدار مسؤوليّتها عن نكبتها هي نفسها منه؛ ذلك أنّ جماعات العنف الأعمى تلك ثمرة مرّة من الثّمرات التي أنتجتْها هذه المجتمعات والدُّول. إنّها (جماعات) لم تنزل من السّماء، بل خرجت من أحشاء المجتمع والسّياسة؛ فهي صناعةٌ للأسرة والتّربيّة، وللمدرسة وبرامج التّكوين، وللبؤس والتّهميش، ولثقافة التعصُّب والانغلاق التي تُولّد مشاعر كراهيّة الآخَر المختلف في المِلّة، بل والمختلف داخل المِلّة عينِها. هي مسؤولة عن توليد الشّروط الثّقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة التي تَغذَّى منها التّعصّب حتّى صار تطرُّفاً فإرهاباً. وعليه، كما يتوقَّف أمنُ مجتمعاتنا واستقرارها وتحصيلها حقوق شعوبها على تغيير سياسات الحكومات الغربيّة تجاه تلك المجتمعات، كذلك يتوقّف قسمٌ من أمن مجتمعات الغرب على إصلاح أوضاع مجتمعاتنا ودولها: إصلاح نظامها التّربويّ والتّعليميّ وسياساتُها الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بما يجفّف الينابيع التّي تتغذّى منها ثقافةُ الكراهيّة والعنف.