حسنًا.. يتطلب الأمر قيامنا ببعض السياحة التاريخية.

-الإمبراطورية الرومانية المقدسة:

عندما سقطت الدولة الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي، وتقاسم تركتها الأوروبية ملوك وأمراء من العنصر الجرماني الذي اجتاح أوروبا فيما يُعرَف بـ"هجرات الشعوب/ Voelkerwanderungen"، واعتنقوا المسيحية وتعصبوا لها بل وقدموا أنفسهم باعتبارهم حُماتها، راودت بابوات روما خلال القرون التالية فكرة إحياء الإمبراطورية الرومانية ممثلة في بعض هؤلاء الملوك.

وبغض النظر عن الغرض النفعي للبابوية من تلك الفكرة، إلا أنه قد كان عليهم أن ينتظروا حتى القرن التاسع الميلادي عندما تم تتويج الملك الجرماني شارلمان إمبراطورًا على "الإمبراطورية الرومانية المقدسة".. والإمبراطور هو في التاريخ الأوروبي بمثابة "عميد الملوك المسيحيين".

منذ ذلك الوقت صار دأب ملوك الجرمان أن يسعوا لاحتكار اللقب لأنفسهم، أيًا كانت الدول التي يحكمونها حيث لم يكن الملك ذو الأصل الجرماني بالضرورة ألمانيًا نظرًا لتمدد هذا العنصر في كل أوروبا، ولكنه كان غالبًا ألمانيًا.. وبدلًا من أن تساهم فكرة إحياء الإمبراطورية في توحيد أوروبا وفرض السلام فيها فقد تسببت في إشعال حروب ونشوب معارك نظرًا لرغبة الأباطرة في التسلط على كل أوروبا من ناحية، ورغبتهم في فرض السطوة على البابوية لحيازة السلطة الدينية إلى جانب تلك الدنيوية من ناحية أخرى.

استمر هذا الوضع طوال فترة العصور الوسطى، ثم دخلت الإمبراطورية في طور الضعف رغم تمسك ملوك الألمان باللقب، حتى انهارت في عام 1806م.

-هتلر ومداعبة نوستالجيا المجد القديم:

بعد الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى وتَعَمُد القوى الأوروبية المنتصرة إذلال ألمانيا، كان من الطبيعي أن يمارس أدولف هتلر لدعايته لفكره النازي لعبة "العزف على أوتار النوستالجيا".. وهذا من خلال مخاطبة أولئك الذين توقف بهم الزمن عند الحلم برجوع الأمجاد الجرمانية الماضية.

وليس السياق هنا لتحليل الخطاب الهتلري كله، ولكن ما يلفت النظر هو أنه قد أجاد التلاعب بشعور الألمان بالم لفقدان المكانة القديمة، وإحساسهم بأنهم يعيشون عصر اضمحلال لـ"الأمة الجرمانية"، فخاطبهم بـ"قراءة ماضوية للتاريخ" تعتمد على استفزاز تلك المشاعر والبكائيات على "العظمة المفقودة" وصولا إلى دفعهم لاعتناق ما يوصف بـ"البارانويا التاريخية"، فضياع الإمبراطورية المندثرة لم يكن بسبب سلبياتها ولا أخطاء القائمين عليها وإنما كان سببه هو "حقد الجميع على الجرمان وتآمر العالم عليهم".. أي أنه قد سار على الخطوات المعتادة لصناعة متطرف خطر على الإنسانية كلها!

ولتكتمل الصورة، تبنى أدولف هتلر الأنماط "الشكلية" الرومانية القديمة.. كالأعلام الحمراء المتدلية عاموديا من صاري أفقي يعلوه النسر (قارن ذلك بالعلم الروماني)، والتحية العسكرية الرومانية.. وهي ليست اختيارات اعتباطية وإنما هي جزء من مداعبة ذلك الشاب النازي المتحمس من خلال تقديم نموذج تاريخي مرتبط بصورة ذهنية معينة لديه عن "المجد القديم"، وصار العدوان الألماني الهتلري على دول أوروبا إنما هو استكمال لحركة "الفتوحات" التي بدأها شارلمان وخلفاءه الأباطرة الجرمان أمثال أوتو وهنري الرابع وفريدريك الثاني وغيرهم.

-العثمانيون الجدد يكررون اللعبة:

لو أننا أخذنا المقطع السابق من المقال واستبدلنا بألمانيا وهتلر تركيا وأردوغان، وبـ"الإمبراطورية" الخلافة، لوجدنا نفس النمط يتكرر من العثمانيين الجدد.. هي ذات المعادلة: شعور جماعي بالإحباط والحنين للماضي، نظام حاكم يروج لأن الدولة العثمانية لم تسقط لسلبياتها وإنما لتآمر العالم عليها، يعد بإحياء "المجد" المفقود، يمارس بعض "الحركات" المداعبة للنوستالجيا وآخرها صعود خطيب الجمعة منبر أيا صوفيا بالسيف!

هذا غير استغلال سلاح الدراما المرئية، ودعم المأجورين من أبناء الدول المستهدفة تركيًا للكتابة عن "محاسن" العثمانيين ونصب حائط المبكى على "مجدهم الزائل" ومداعبة حلم "استعادة الإمبراطورية".. بحيث لا يتوقف أثر تلك اللعبة على الأتراك وحدهم وإنما ليصيب ضعاف الثقافة والعقول من أبناء تلك الدول.. إلى حد أن أرى بعض هؤلاء ممن يعيشون في تركيا -وهو شخص يدعي التخصص في التاريخ العثماني- يخصص صفحته الشخصية على الفيسبووك للتسبيح بحمد العثمانيين آناء الليل وأطراف النهار بل وللمجاهرة بالشماتة في أشقائنا السوريين عند عدوان تركيا على شمال سوريا الشقيقة!

ختامًا:

النمط العثماني الجديد للدعاية إذن ما هو إلا تكرار لنمط قديم تسبب في مأساة إنسانية عمّت العالم كله، ولكنه أكثر خطورة لأنه جاء في زمن سرعة انتقال المعلومات والرسائل، فتجاوز موانع الحدود واللغات في استهدافه السفهاء وضعفاء العقول ممن يمكن أن يمثلوا في وقت المعركة خنجر مسمومة نُطعَن بها من الخلف!