المتابعون لمقدّرات تركيا في زمن السلطان المتوهّم، يدركون أن الرجل قد فَقَدَ توازنه مرّة ومن غير خطّ رجعة، وآية ذلك تهوّره الأيّام القليلة الماضية عبر إطلاق صاروخ "إس 400"، الروسيّ الصنع، في تجربة جرت من مدينة "سينوب" على شاطئ البحر الأسود.

حديث التجربة هذا قضيّة أخرى، لكنّها في كلّ الأحوال ستجرّ الويلات على أردوغان، إذ أثارت بالفعل ثائرة أعضاء مجلس الشيوخ الأميركيّ ديمقراطيّين وجمهوريّين على حدٍّ سواء، واعترافهم بأنّ أردوغان لا يفهم التصريحات الكلاميّة اللفظيّة، بل والأفعال على الأرض، ومنها ما هَدَّد به الرئيس ترامب قبل عامين، حين اتّهمت السلطات التركيّة مواطن أميركيّ "أندرو برونسون" بالجاسوسيّة، وساعتها أرسل له ساكن البيت الأبيض رسالة قال فيها: "لا تكن أحمق، يمكنني تدمير الاقتصاد التركيّ إن أردت بشكل غير مسبوق".

اليوم تجد إدارة الرئيس ترامب نفسها في موقف حرج، إن تغاضت عن تجارب "إس-400"، الروسيّة، والتي تهدّد الأنظمة الدفاعيّة لحلف الناتو، وبنوع خاصّ تعرض فخر الصناعة العسكريّة الأميركيّة "الطائرة إف-35" في مقتل، ما يعني أن المجمع الصناعيّ العسكريّ الأميركيّ سوف يشتعل غضبًا على تركيا.

تبدو حكومة أردوغان في مواجهة عقوبات أميركيّة اقتصاديّة عاجلة، وغالبًا ما سيستخدم قانون "كاتسا"، والذي يهدد كلّ من يتقاطع بالسلب مع الأمن القوميّ الأميركيّ، ناهيك عن العقوبات العسكريّة التي جرت بالفعل في القنوات الخاصّة بها وفي مقدّمتها وقف التعاون حول تصدير الطائرة الفائقة الأهمّيّة التي تتهدّدها الصواريخ الروسيّة.

والثابت أنّه، وفي توقيت مشابه، يكاد صبر دول الاتّحاد الأوربيّ أن ينفذ في مواجهة حماقات الأغا أردوغان في مياه شرق المتوسط، والعودة غير المحمودة لسفنه مرّة ثانية للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليميّة لليونان وقبرص، الأعضاء في الاتّحاد الأوربيّ، ما يجعل عصا العقوبات الاقتصادية تهوي عمّا قريب جدًّا على رأس من فقد عقله.

هل باتت العقوبات الاقتصاديّة سلاحًا فعّالاً وماضيًا وربّما أقوى من الضربات العسكريّة في بعض الأحايين؟

من الواضح أنّ أردوغان الذي ليس له دالّة على التفريق بين القوّة الناعمة وأهمّيّتها، والميل لاستخدام القوّة الخشنة وكارثيّتها، يسعى لافتعال معارك وهميّة دون كيشوتيّة خارجيّة، معارك يسعى من خلالها إلى تعظيم صورته في عيون دول الإقليم، وبمعنى أكثر عمقًا، إنّه يفرّ من أزمات الداخل إلى الخارج، عبر تصدير المشكلات ومحاولة إلقاء تبعاتها على الآخرين.

من العراق إلى سوريا، ومن اليمن إلى ليبيا، يلعب أردوغان دور "عدوّ البشر"، يصدر الفتن ويحيك المؤامرات، عطفًا على دعمه للإرهاب وتغذيته والوقوف وراءه صفًّا.

كيف يمكن للعالم العربيّ بنوع خاصّ ملاقاة هذا الجنون غير المسبوق من حاكم تركيّ جَرّ الوبال على شعبه، وبدأت الأصوات العاقلة في الداخل التركيّ تتساءل ما هي الفائدة التي تحقّقتْ لنا من عداء عالم عربيّ تجمعنا بها الرؤى الإيمانيّة والدينيّة، وقد جَرَتْ المقادير بعلاقات طوال مئات السنين وحتّى إن لم تكن سخاءً رخاءً، صفاءً زلالاً، إلا أنّها مضت على كلّ الأحوال في إطار الاتّفاق والاختلاف الطبيعيَّيْن.

لعلّ الدعوات التي انطلقت مؤخّرًا في عدد من دول العالم العربيّ لمقاطعة تركيا اقتصاديًّا تنبّه الأغا الواهم بأنّه يقود بلاده إلى الانهيار، وأنّ الألاعيب والحيل لا تفيد في الإنقاذ، بل يتحتّم على الحاكم العقلانيّ أن يستنقذ شعبه من الانحدار إلى جُبّ الهاوية.

تبقى المقاطعة الاقتصاديّة أداة اعتراض سلميّة راقية في مواجهة الطغاة، وأفضل تعريف لفكرة المقاطعة هو القول بأنّها التوقّف الطوعيّ عن استخدام أو شراء أو التعامل مع سلعة أو خدمة لجهة أو شركة أو دولة تسيء أو تُلحق الضرر به أو بغيره كشكل من أشكال الاعتراض أو الاستنكار.

بلغ السيل الزبى كما يُقال مع تركيا-أردوغان، وبات البحث عن أدوات عصرانيّة سلميّة لمواجهة التهديدات المستمرّة والمستقرّة أمرًا لا غنى عنه حتّى يرتدع.

لم تتوقّف نوبات الغرور الإمبراطوريّ المنحول والبائد عند أبواب العرب، فها هي تقرع أبواب الأوربيّين بنوع خاصّ، عبر التهديد بفتح بوّابات الحدود لبضعة ملايين من اللاجئين لإغراق أوربّا في إشكاليّات صعبة مرّة جديدة.

فيما المواجهة مع واشنطن ومكايدتها السياسية تمضي من خلال الصواريخ والطائرات، والتشارع والتنازع عبر مربعات النفوذ السياسية والأمنيّة حول العالم، وربّما آخر المغامرات الإرهابيّة لأردوغان، محاولة تصدير الإرهاب إلى نيجيريا وبقية دول القارة الأفريقيّة من خلال ليبيا، الأمر الذي يؤكّد نوايا أنقرة السيّئة للقارّة السمراء مستقبلاً.

السؤال الجوهريّ: "هل يمكن للمقاطعة العربيّة تحديدًا للسلع والبضائع التركيّة أن تكون ذات تأثير في المستقبل القريب على الأوضاع في الداخل التركيّ؟

قبل الجواب دعونا نُشِرْ إلى بعض البيانات التي توفّرتْ لنا ونحن في طريق هذا المقال وفي المقدّمة منها حالة الاقتصاد التركيّ الذي وصل إلى الهاوية، لا سيّما بعدما أعلن البنك المركزيّ في الأسبوع الأوّل من شهر أكتوبر الجاري عن انخفاض صافي احتياطيّ النقد الأجنبيّ إلى مستوى قياسيّ هو الأوّل من نوعه منذ عام 2014، فقد بدأ العام 2020 باحتياطيّ بقرابة 41 مليار دولار، واليوم 16.8 مليار.

كان "بيرات البيرق" صهر أردوغان هو السبب الأكبر في إفلاس الخزانة التركيّة، وبخاصّة بعد ارتفاع ديون القطاع الخاصّ التركيّ إلى 162 مليار دولار.

لن تنقذ الاقتصاد التركيّ عمليّات الاقتراض التي يقوم عليها الصهر، فمنذ بداية العام الماليّ الحاليّ اقترضت نحو 23 مليار دولار، ولهذا تبقى تحت سيف الخسائر الفادحة في ظلّ صعوبة الاستدانة من الخارج، وفي أجواء عودة كورونا مرّة أخرى.

يمكن للمرء أن ينظر إلى القطاع الصحّيّ التركيّ الذي يتهاوى يومًا تلو الآخر، وبات تفشّي كورونا مريعًا ومن غير مقدرة على مواجهته أو مجابهته، فقد هجرت السياسات القمعيّة التركيّة أفضل الأطبّاء الأتراك، الأمر الذي سينعكس بشكل بائس على أحوال ومآلات اقتصاد البلاد من جديد.

يومًا تلو الآخر يتلقّى أردوغان الضربات على أمّ رأسه، غير أنّ "الغريق لا يبدو أنّه يخشى البلل"، ولهذا لا يظنّ المرءُ أنّه سيغيّر من أفعاله، والرهان الحقيقيّ الذي لا بدّ له، هو الشعب التركيّ، الثائر والهادر ضدّ تصرُّفات حمقاء جرَّتْ الويلات اقتصاديًّا، وأعادت للأذهان سيرة تركيا العثمانليّة المستبدّة، السبب الأكبر في الظلاميّات التي خيَّمتْ على سماوات العالم العربيّ لقرون طوال.

المقاطعة الاقتصاديّة طريق متحضّر وسلميّ في مواجهة أردوغان.