وللأسف يلعب الإعلام دورا مضللا في كثير من الأحيان يساهم في هذا الخلل الواضح، إضافة بالطبع إلى انتشار التلفيق والسطحية عبر الإنترنت ومواقع التواصل.

الفارق الأساسي هنا ليس مسألة الحرية والديموقراطية، وانتخاباتنا وانتخاباتهم، وإنما هو "النظام".

فأهم ما يحافظ على المجتمعات الغربية، رغم تدهور كثير من الأوضاع التي تلمسها في كل شيء من نظام المرور إلى الخدمات الصحية وحتى الفساد وفقدان الثقة في السياسيين، هو وجود نظام راسخ تراكم على مر العقود يحمي المجتمع والدولة حتى لو أصابه الضعف.

ربما يكون مفهوما أن يعلّق الناس بالعربي على مواقع التواصل مقارنين اقتحام فوضويين مسلحين لمباني الكونغرس الأميركي بمظاهرات الغضب والاحتجاج التي شهدتها عواصم عربية قبل عقد من الزمن.

وتصل السخرية والتهكم إلى استرجاع تصريحات أميركية وقتها تطالب الحكومات العربية بالتنحي والاستجابة للضغط الجماهيري. لكن ما يفوت هؤلاء أن المظاهرات والاحتجاجات في بلادنا لم تكن تطالب بالغاء انتخابات حرة وشفافة، أو لهدم نظام الدولة والمجتمع.

فالواقع أن أغلب بلاداننا تفتقر إلى هذا "النظام" أصلا، وهذا ما جعل جماعات إرهابية وعنصرية مثل "الإخوان" تركب موجة الاحتجاجات وتقفز إلى السلطة أو تكاد مستفيدة من غياب "النظام" وسذاجة المحتجين. وهذا أيضا ما ترك أغلب البلاد التي شهدت الاحتجاجات في حالة من الفوضى والانهيار كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن.

ما حدث في واشنطن، هو جريمة حسب معايير النظام ومؤسساته ويحاسب عليها الرئيس دونالد ترامب الذي حرّض تلك الجماعات اليمينية المتطرفة والعنصرية على اقتحام مبنى حكومي واستباحته وسقوط قتلى. حتى اعتراض الرئيس المنتهية ولايته له سببه، فقد حصل على أصوات نصف الأميركيين تقريبا. ثم إن كل هذه الفوضى والعنف لم توقف العملية السياسية لتنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن بعد أيام.

ما حدث في واشنطن، وفي أميركا كلها على مدى أربع سنوات من حكم ترامب، هو إطلاق يد تيارات وجماعات موجودة في البلاد لكنها لم تستمد قوة أكبر من وجود رئيس مثلها. لذا اشتدت ووضحت معارضتها للنظام ومحاولة تجاوزه، لكن حتى الآن يكسب النظام.

كتبت قبل انتخابات 2016 الرئاسية في الولايات المتحدة بستة أشهر أن ترامب سيكون مرشح الجمهوريين وسيفوز في الانتخابات، وذلك عكس كل التوقعات والاستطلاعات وقتها.

كان سند هذا الرأي وقتها أن دونالد ترامب هو أفضل من يعبّر عن أميركا في الوقت الحالي قاصدا بروز التيارات الشعبوية وزيادة النعرات العنصرية، ليس تجاه الأجانب و"الغير" فحسب وإنما تجاه بقية الأميركيين.

وتجد تلك التيارات عائقا أمام ممارسة فاشيتها في النظام والمؤسسات. وبالتالي فإن شخصا كترامب، من خارج المؤسسة ولا علاقة له بالسياسة (أو أي شيء في الأغلب غير المال والنساء)، قد يكون نموذجيا لتمثيل هذا التيار.

وجاءت انتخابات 2020 لتثبت أن هذا التيار واسع النطاق، ولا يقتصر على جماعات ضيقة كالنازيين الجدد أو غيرهم من العصب المتطرفة. فقد حصل ترامب في انتخابات نوفمبر الماضي على 75 مليون صوت، أي نصف الأميركيين إلا قليلا. ذلك على الرغم من أن الاعلام الرئيسي والتقليدي في أميركا لم يفوّت فرصة على مدى أربع سنوات لانتقاد الرئيس وسياساته وتغريداته على تويتر، وفي أغلب الأحيان عن حق، لأنه يكذب ويلفق ويضلل فعلا.

منذ أول مرة زرت فيها الولايات المتحدة مطلع تسعينيات القرن الماضي وأنا أتابع نمو الشقاق بين مكونات ذلك البلد الكبير والواسع على مدى أكثر من زيارة سنويا.

ورغم أني لم أزرها سوى مرة واحدة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 إلا أن ما يجري فيها شفاف ومكشوف للعالم. ويشعر كل من يزور الولايات المتحدة (بشكل عادي وليس رسميا، أي يحتك بالشارع) بتنامي تلك العنصرية والتعصب. لكن ظل النظام حافظا لتماسك البلاد وقوة مؤسساتها.

ما فعلته فترة رئاسة ترامب أنها حاولت الاضرار بالنظام، ولم يكن اقتحام الكونغرس في يوم التصديق على فوز منافسه السياسي سوى قمة محاولات الإضرار بالنظام تلك. لكن في النهاية أيضا انتصر النظام وأقرّ بايدن رئيسا وسيتسلم السلطة في 20 يناير.

صحيح أن النظام تضرر، وهو في حالة إضعاف مستمر منذ مطلع القرن الجديد وليس في أميركا وحدها بل في أغلب الديموقراطيات الغربية من بريطانيا إلى إيطاليا وأستراليا. لكن لا يمكن مقارنة الوضع عندهم بالوضع عندنا، خاصة وأننا في بلادنا لم نرسخ بعد "نظاما" قويا منذ بداية بناء دولة ما بعد الاستقلال منتصف القرن الماضي.