وبالرغم أن القاصي والداني في أرجاء المعمورة كلها يدرك أن الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب غير مأمون الجانب، ودوما لا يُرتقب منه إلا سوء العواقب، لكن الناظر لأحداث الأربعاء الأسود، الأكثر ظلمة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية كما وصمه الرئيس الفائز بالانتخابات الرئاسية جو بادين، فَرك عينيه غَير مرة ، حين ظن أن مشاهد اقتحام مبنى الكابيتول قلعة الديمقراطية الأميركية، والحِصن الذي يُشرّع ويُعّدل التشريعات، صار هدفا للانتقام وارتكاب الجرائم والآثام، فَاتشَح المشهد برمته بالسواد، وتدثرت الأمة الأميركية المكلومة برئيسها بعباءة التنكر، وشاهدت المعمورة كلها المشرعين الأميركيين يهربون من قاعة إشهار الرئيس بايدن رئيسا للولايات المتحدة.

ولكن محاولة الهروب الكبير كانت محاولة طي هذه الصفحة السوداء من هذه الذاكرة المفجعة، فالشعب الأميركي لم يألف مثل هذه الأحداث، ولم يكن ليتوقع حصولها منذ استقلال الجمهورية الأميركية عام 1776.

وتدحرجت كرة اللهيب أمام ترامب بسرعة البرق منذ الأربعاء، وألقى العديد من وُجهاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري العديد من الحجارة في الماء الذي لم يكن آسنا على وجه الإطلاق، فمنذ أيام، وفي سابقة صادمة للرئيس ترامب تخطى المشرعون الأميركيون "فيتو" الرئيس الخاص حتى يقرروا موازنة الدفاع للولايات المتحدة، وسبق للنواب الديمقراطيين أن حاولوا عزل الرئيس ترامب، و أعدت السيدة بيلوسي رئيسة مجلس النواب قائمة الاتهامات الأولية من أجل الشروع في إجراءات عزله يوم الاثنين القادم، ودونت العديد من الاتهامات للرئيس، ومن بينها التورط في جرائم كبرى بتحريضه على "التمرد"، والتحريض بشكل متعمد عبر تصريحاته على عمل مخالف للقانون بمبنى الكونغرس، وتهديد سلامة النظام الديمقراطي وعرقلة الانتقال السلمي للسلطة، وتعريض قطاع من الحكومة للخطر وخيانة الأمانة بصفته رئيسا.

يمكن الدفع أيضا بمسؤولية ترامب باعتباره محرضا وشريكا في اقتحام أنصاره مبنى "الكابيتول" بالقوة، والتسبب العمد في الأحداث المروعة التي وقعت يوم السادس من يناير، التي صاحبها العنف والدمار والقتل، فضلا عن مسؤوليته عن الامتناع عن استدعاء الحرس الوطني أو غيره من أجهزة إنفاذ القانون، لحماية مبنى "الكابيتول" واستعادة الأمن والقانون والنظام.

ومع بقاء أقل من أسبوعين فقط قبل تنصيب جوزيف بايدن لمنصب الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، يبدو من غير المرجح أن يكون هناك وقت كافٍ للكونغرس للنظر بشكل كامل في عزل ترامب بسبب "جرائمه الجديدة"، بما في ذلك حث مسؤولي ولاية جورجيا على ارتكاب تزوير الناخبين وتشجيع حشد من أتباعه على اقتحام مبنى الكابيتول.

وينص الدستور الأميركي على أن الرئيس "يجب أن يقال من منصبه في أعقاب توجيه الاتهام والإدانة بارتكاب جريمة الخيانة والرشوة أو غيرها من الجرائم والجنح الكبرى"، لكنه لا يذكر شيئا عن توقيت إجراء العزل والمحاكمة، وهذا الإغفال منطقي، لأن الرؤساء - وأي مسؤولين آخرين يخضعون للمساءلة - يمكن أن يرتكبوا جرائم تستوجب العزل في أي وقت أثناء وجودهم في مناصبهم ، بما في ذلك في الأشهر أو الأيام الأخيرة في مناصبهم.

وبعد انتهاء ولاية الرئيس الأميركي، والإخفاق في ملاحقته أو عزله أثناء ولايته، فذاك الرئيس لا يستطيع أن يدفع بحصانته الرئاسية السابقة، فالرئاسة ذاتها ليست ملاذا آمنا من المساءلة السياسية والقانونية.

وقد سبق أن أعلن جون كوينسي آدامز الرئيس السادس للولايات المتحدة "طالما أن جسدي ينبض بالحياة، فأنا قابل للمساءلة عن كل ما فعلته خلال الوقت الذي كنت فيه رئيسا للولايات المتحدة"، فمن المبادئ الأساسية للدستور أنه لا أحد ولا حتى الرئيس، فوق القانون، وإساءة استخدام السلطة، بحكم التعريف، هي انتهاك للدستور، القانون الأعلى للبلاد.

وتعني عبارة "العزل" توجيه اتهامات في الكونغرس قد تشكل أسسا لإحالة الرئيس إلى القضاء، وينص الدستور الأميركي على أن الرئيس "قد يعزل من المنصب في حالة اتهامه بالخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم والجنح الخطيرة".

ومن المعلوم أن بدء عملية إجراءات عزل الرئيس ينبغي أن تنطلق من مجلس النواب، ولا تحتاج إلا لأغلبية بسيطة فيه لتمريرها، أما محاكمة الرئيس السياسية ذاتها أمام مجلس الشيوخ فتتطلب أغلبية ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، وهو ما لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة حتى الآن.

ويكاد المراقبون يجمعون على صعوبة تحقق ذلك في ظل هذه اللحظة التاريخية الصعبة للحزب الجمهوري بشكل خاص، فطبيعي أنهم لا يرغبون في أن تقع الواقعة ويعزل زعيمهم ترامب وتشتد قساوة وكآبة المشهد ويصير الكرب كربين: كرب الأربعاء الدامي وكرب العزل المفجع.

جليّ أن التطور الدراماتيكي الأخير في المسلسل الأميركي غير "الهوليوودي"، بالرغم من إثارته المفرطة هو الإشارات الواردة من ترامب ومساعديه أنه لن يحضر مراسيم التنصيب الرئاسية المقرر عقدها يوم 20 يناير إلا إذا تعهد الرئيس المنتخب بايدن بمنحه ومساعديه ومستشاريه المشتبه بتورطهم في جرائم جنائية وسياسية عفوا شاملا، علما أن الرئيس ترامب وحتي كتابة هذه السطور أصدر عفوا ومنح الرأفة لأكثر من 90 شخصا منذ عام 2017، وكان من بين أحدث المستفيدين مدير حملة ترامب السابق بول مانافورت، ومستشار الحملة السابق روجر ستون، ومستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين، فضلا عن منتسبي شركة الأمن الخاصة "بلاك ووتر" الذين ارتكبوا جرائم حرب ضد الإنسانية في العراق.

بلا مرية، تعد إجراءات تنصيب الرئيس المنتخب احتفالية تاريخية يتوق لمتابعتها الجميع في الولايات المتحدة وكافة بلدان العالم، ولكنها في المقام الأول إجراء مراسمي محض لا يمس من قريب أو بعيد دستورية العملية الانتخابية، أو دستورية قيام الرئيس المنتخب بمباشرة سلطاته الوظيفية، ولكن من الناحية الرمزية الشكلية سيختلف الأمر إن نفذ ترامب وعيده بعدم حضوره هذه المراسم.

ختاما، يمكننا الزعم بأن الرئيس المنتخب بايدن، وبالإشارة إلى مطلب غريمه ترامب بمنحه العفو الرئاسي، يتعرض الآن لتحد شديد، دستوري وقانوني وأخلاقي، ربما يفوق في صعوبته أحداث الأربعاء الدامي، فهل يحذو حذو أسلافه من الرؤساء الأميركيين، ويطبق القول العرب المأثور: " إن أشرف الثأر العفو"؟.