يمثل الخوف من هذا التزوير وغياب الضمانات بنزاهة الانتخابات عموما الاعتراض الأهم الذي تسوقه قوى الاحتجاج وعلى أساسه ترفض الكثير منها خوض السباق الانتخابي.

تحتاج قوى الاحتجاج أن تغادر موقف المتفرج الذي ينتظر أن يقوم الآخرون، من مؤسسات دولية أو محلية أو غيرها، بالعمل على ضمان نزاهة الانتخابات، وأن تبادر هي بنفسها للقيام بالجزء الأكبر من هذه المهمة النبيلة والضرورية، التي تساهم في إنضاج الاحتجاج سياسياً وتنظيمياً وتوفر له مراناً انتخابياً مهماً، سواء قرر المحتجون الاشتراك في الانتخابات أم لا.

من الصعب جداً دحض الاعتقاد الواسع بخصوص تزوير الانتخابات، بغض النظر عن دقته، لأنه باختصار ليست هناك آلية مؤسساتية، سواء رسمية عبر الدولة العراقية أو غير رسمية عبر المنظمات المحلية أو الدولية الرصينة، موثوقة ويُعتمد عليها، كي تبت على نحو حاسم بخصوص حصول التزوير واتساع حجمه ومقدار تأثيره على نتائج الانتخابات.

لا يمكن لنظام ديمقراطي أن يعمل على نحو صحيح من دون وجود مثل هذه المؤسسات التي تظهر أهميتها في اللحظات الفاصلة عندما تتأرجح كامل مصداقية النظام الديمقراطي بين الحقيقة والزيف، بسبب الشك في قدرة الدولة على حماية أصوات الناخبين بوصفها المصدر الشعبي والأخلاقي والقانوني لشرعية النظام الديمقراطي نفسه.

في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة التي وضعت الرئيس الحالي جو بايدن بمواجهة الرئيس السابق دونالد ترامب، مر النظام الديمقراطي الأميركي بلحظة تأرجح كهذه عندما حاجج ترامب بأن فوزه بالرئاسة قد سُرق منه بسبب التزوير الواسع فيها، مستفيداً من حقيقة تقارب النتائج في بعض الولايات التي كانت ستؤمن له الفوز بالرئاسة لفترة ثانية في حال ثبوت فوزه فيها.

فمثلا، كان الفارق بينه وبين بايدن في تصويت ولاية جورجيا الذي شارك فيه نحو خمسة ملايين ناخب، أقل من 13 ألف صوت لصالح بايدن.

بعد إعادة الفرز والعد الكترونياً ويدوياً ثلاث مرات، تأكد فوز بايدن، حتى مع ظهور خطأ في إحدى المقاطعات في الولاية احتسب بموجبه 766 صوتاً إضافياً لبايدن على نحو خاطئ ليتراجع الفارق بين الاثنين إلى أقل من 12 ألف صوت.

كانت هذه النتيجة واضحة وحاسمة ودعمها القضاء في الولاية لينهي الجدل.

تكرر مشهد تحدي نتائج الانتخابات هذا، بتنويعات مختلفة، في خمس ولايات أخرى، ليُحسم أيضاً على نحو شبيه: مؤسساتياً ولصالح الفائز الذي أعلن لأول مرة. حينها انتصر حتى أشد أعضاء الحزب الجمهوري ولاءً لترامب وأكثرهم خصومةً لبايدن للنتيجة التي أكدتها الهيئات الانتخابية ودعمتها المحاكم. لم يكن هذا إعلان عداء لشخص وولاء لآخر، وإنما التزاما بمعنى المؤسسات التي تقود البلاد.

عند إثارة أمثلة ايجابية كهذه في ديمقراطيات عريقة وناجحة، غالبا ما يرد الكثير من العراقيين باستخدام الحجج المعتادة والمزيفة باستدعاء الخصوصية الثقافية التي "تميزنا عنهم" على أساس أن هذه الديمقراطيات احتاجت مئات الأعوام كي تنضج، فيما عمر الديمقراطية العراقية أقل من عشرين عاماً، وبالتالي فالأخطاء لدينا مفهومة ومتوقعة.

الخصوصية الثقافية هي واحدة من الحجج المُضلِّلة فمهمتها الأساسية في السياق العراقي هي ترسيخ السلبية وتبرير الفشل والتنصل من مسؤولية الأفعال المتعمدة التي قادت إلى هذا الفشل. فكيف يمكن مثلاً لبلد، كتونس، قصته الديمقراطية أقصر من قصة العراق أن يجري عدة جولات انتخابية بنجاح، حتى من دون دعم دولي كالذي تلقاه العراق؟ وكيف يمكن لغالبية دول أوروبا الشرقية التي خرجت في التسعينات من استبداد قاس لحكم الحزب الواحد أن تجري انتخابات دورية ذات مصداقية؟ ولماذا استطاعت "النمور الآسيوية" التي كان معظمها يعاني مشاق الفقر والحكم الدكتاتوري وصولاً إلى الثمانينات أن تنشئ نماذج اقتصادية وسياسية ومؤسساتية ناجحة، من ضمنها الانتخابات الدورية لتداول السلطة؟.

الزمن بذاته، طولاً أو قصراً، ليس فاعلاً سياسياً أو صانعاً للأحداث، ولا يسبب النجاح أو الفشل. الأشخاص والجماعات، عبر أفعالها، هي التي تصنع الأحداث، وتتحمل المسؤولية عن هذه الصناعة، سلباً أو إيجاباً.

والتعكز المعتاد على قلة الوعي، الحجة الأخرى الرديفة لحجة الخصوصية الثقافية، يستند أساساً على رفض متعمد من جانب النخب السياسية العراقية التي تصدرت التحول المفصلي والمهم بعد عام 2003، التعلم من تجارب الآخرين والإنصات لحجج المختصين، وتفضيلها الولاء الهوياتي للماضي بدلاً من المستقبل الإنساني العام لكل العراقيين وإصرارها الأحمق على إعادة اكتشاف العجلة للمرة الألف بعد اكتشافها الأول.

صنعَ الفشل الحالي أحزاب عراقية ونخب سياسية-دينية، انقاد لها حينها جمهور واسع اختار أن تقرر عنه هذه الأقلية الحزبية والنخبوية.

وبالتالي فإن التزوير الانتخابي، والخوف منه والعجز عن معرفة مقداره والفشل في إيجاد وسائل لمنعه على نحو يُطمئن الجمهور الذي أصبح متشككاً بعد استيقاظه من سباته الطويل، سيبقى شبحاً يطارد شرعية الانتخابات المقبلة والقبول بنتائجها، بغض النظر عن حصول تزوير مؤثر فيها أم لا.

باختصار، لا يثق العراقيون بالمؤسسات الانتخابية التي شكلتها المنظومة الحاكمة بعد 2003 لأن أحزاب هذه المنظومة عبر محاصصاتها الكثيرة في كل مؤسسات الدولة وسلوكها الانتخابي المتكرر، غير القانوني وغير الديمقراطي، نزعت عن هذه المؤسسات كل احترام أو ثقة شعبية بها.

من هنا تتجه الخيارات البديلة التي يفضلها الجمهور وبعض القوى السياسية الجديدة، بضمنها الاحتجاجية، لحماية شرعية الانتخابات المقبلة إلى مؤسسات دولية كالأمم المتحدة.

لكن ثمة سوء فهم شديد لدى هذه القوى بخصوص ما هو ممكن أو غير ممكن بهذا الصدد.

تقدم الأمم المتحدة ثمانية أنواع من الدعم الانتخابي للدول الأعضاء، وأعلى هذه الأنواع هي تنظيم وإجراء العملية الانتخابية (تولي فريق أممي مخول الدور الذي تتولاه السلطة الانتخابية المسؤولة في البلد المعني، أي مفوضية الانتخابات في السياق العراقي) والإشراف على الانتخابات (موافقة ومصادقة فريق أممي مخول لكل مرحلة من مراحل العملية الانتخابية لضمان نزاهتها، بضمنه مشاركة الفريق في التفاصيل العملية المختلفة التي تتطلبها الانتخابات مثل تحديد موعدها وإصدار التعليمات المتعلقة بها، ومراقبة المحطات الانتخابية وعد الأصوات وحل الشكاوى الانتخابية) والتحقق والمصادقة (متابعة فريق أممي كل أو بعض المراحل الانتخابية ليصدر تقريرا نهائيا يُقيِّم فيه نزاهة الانتخابات ومصداقيتها).

تتطلب أنواع المساعدة هذه قراراً بالموافقة من مجلس الأمن أو الجمعية العامة، فضلاً عن كونها نادرة الحدوث جداً (كما انتخابات ناميبيا في 1989 وكمبوديا في 1992 والبوسنة في 1996 واستفتاء تيمور الشرقية 1999). فهي تحصل في العادة في البلدان التي تفتقر إلى سلطة وطنية حاكمة أو أن هذه السلطة مفككة على نحو يجعلها عاجزة عن إجراء انتخابات نزيهة، أو في سياق وجود قوات حفظ سلام دولية فيها.

لم يسبق للعراق أن تلقى أيا من هذه الأنواع الثلاثة من المساعدة، فحتى الانتخابات الأولى فيه بعد سقوط صدام لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية في 2005، لم تشرف عليها أو تنظمها الأمم المتحدة ولم تتحقق منها أو تصادق عليها أو تصدر تقريراً رسمياً يحكم على نزاهتها، بل اكتفت بتقديم المساعدة التقنية فيها.

سياسياً ومنطقياً لن تطلب الحكومة العراقية أيا من أنواع المساعدة الثلاثة، وحتى في حال تقديمه طلباً بهذا الخصوص، فإنه سيُرفض على الأغلب. ثمة توقع سائد بين الكثير من العراقيين، وعلى الأخص المحتجين، بأن الأمم المتحدة متلهفة أو مستعدة للعب أي دور تطلبه منها الحكومة العراقية في الانتخابات المقبلة. هذا التوقع خاطئ إلى حد كبير، فهناك ما يشبه الإرهاق الدولي من الملف العراقي والصعوبة البالغة في تحقيق أي تقدم جدي فيه بعد أكثر من 18 عاماً من الاستثمار الدولي فيه من دون نتائج ملموسة كبيرة. في الحقيقة ثمة ممانعة سياسية حتى بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي من الدخول أكثر في هذا الملف. العراق، بعكس تصور الكثير من العراقيين، ليس مركز العالم ولا محط اهتمامه الأول.

المساعدة الانتخابية الحالية التي تقدمها الأمم المتحدة للعراق عبر مكتب يونامي هي نوع رابع يسمى بالمساعدة التقنية.

يعني هذا تقديم المساعدة اللوجستية والتقنية لتطوير وتحسين المؤسسات والإجراءات والنظم الانتخابية.

ويمكن لهذا النوع من المساعدة أن يغطي نواح مختلفة من العملية الانتخابية حسب الاتفاق بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، لكنه لا يقدم أي ضمانات بنزاهتها.

قدمت الحكومة العراقية قدمت طلباً للأمم المتحدة لتوسيع مهمتها في العراق لتشمل، فضلاً عن المساعدة التقنية، نوعاً خامساً من المساعدة هي الرقابة الانتخابية. تتضمن هذه الرقابة المتابعة المباشرة للعملية الانتخابية، وجمع معلومات عنها وإصدار تقرير بعد نهايتها، يُقيم الكيفية التي أجريت بها العملية الانتخابية. في العادة، لا يتضمن مثل هذا التقرير حكماً نهائياً بنزاهة الانتخابات من عدمها. وهذا النوع من المساعدة الانتخابية الأممية نادر أيضاً.

لم يبت مجلس الأمن لحد الآن بالطلب العراقي، الذي يُتوقع أن يكون في نهاية شهر مايو، لكن حتى في حالة موافقة مجلس الأمن على الطلب، فإن تنفيذه لن يلبي مطالب المحتجين ولن يزيل القلق الشعبي بخصوص نزاهة الانتخابات، فعلى الأغلب ستبعث الأمم المتحدة فريق خبراء محدود الحجم يعمل في مواقع انتخابية محدودة.

لن يطمئن مثل هذا الأمر المشككين الكثيرين بنزاهة الانتخابات الذين يريدون شبكة رقابة انتخابية مستقلة واسعة تغطي كل البلد تقريباً.

بالتأكيد لن توفر لا الأمم المتحدة ولا أي طرف دولي مثل هذه الشبكة. المحتجون، ومعهم المهتمون بإجراء انتخابات نزيهة، هم وحدهم القادرون على صناعة مثل هذه الشبكة التي تنتشر على امتداد البلد لتوفير الرقابة الانتخابية اللازمة التي تُشعر الناس بالثقة أن أصواتهم لن تضيع.

أولاً، هناك إطار قانوني في العراق يسمح بتشكيل شبكة رقابة انتخابية وعلى نحو يسير نسبياً.

ثانياً، يسمح قانون مفوضية الانتخابات بمساهمة منظمات أهلية، كما في هذه الشبكة، في عمليات الرقابة الانتخابية.

ثالثاً، انتقاء المراقبين الانتخابيين حسب المناطق التي يعيشون فيها، ورابعاً تدريبهم على آليات الرقابة الانتخابية، وهو أمر يستغرق أياما من التدريب المكثف.

ليس ثمة صعوبات يستحيل تجاوزها في مثل مشروع الرقابة الانتخابية هذا، فكل ما يحتاجه الأمر هو الإصرار والتنظيم والوقت.

وبعيداً عن حقيقة وجود تجارب رقابة انتخابية شعبية ناجحة في دول العالم المختلفة تستحق التعلم منها، ستحقق قوى الاحتجاج العراقي عبر تبنيها تجربة كهذه، ما فشلت الطبقة السياسية العراقية عن تحقيقه: استعادة ثقة العراقيين بنزاهة الانتخابات وجدواها.