الناموس، قبل أن يستعير هوية متنٍ مقدّسٍ، متوّجٍ بوسام إسمٍ في مقام "آنهي" (أي المبكّر)، كان درساً مترجماً بالطبع، قبل أن يسري في شرايين وجدان القوم ليصير، في تجربتهم الدنيوية، هويّة؛ لأن كلمة "ناموس" اشتقاق من "يموس" الدالّة على الكينونة، أي على ما هيّة أخلاقيّة، هوية أخلاقية، ما لبثت أن استوت في حرف ماهيّةٍ روحية، لتغدو رباطاً يضبط إيقاع علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، في واقعٍ برّي، بريء، يبدو رديفاً لعدمٍ، لا لشيء إلاّ لأنه حضورٌ في صحراءٍ أبت إلّا أن تختزل في حرفها طبيعة الوجود.

فالسرّ ليس في الحرف، ليس في النصّ، ليس في منطق المنطوق وحسب، ولكن في حريق الوَجْد الذي يُنتظر أن يشبّ في فتيل النغمة، في لحن الوصيّة، في موسيقى الشهادة، ليهبّ في زوبعة إنشادٍ، مسكوناً بأشجانٍ، تنافس شجون الشاعرات عندما يلفظن حنينهنّ، في محافل أمسيات اكتمال القمر بدراً، مشفوعاً بأرواحٍ هي قرابين.

فالحجّة تسكن سلطة الإنشاد، شطحة النداء اللّا أرضيّ، المفعم بالإلهام النّبويّ، الذي يجود به الحكماء، كأنّهم يجودون بأنفاسهم، وهم يتغنّون، في المجالس، بوصيّةٍ مستعارةٍ من ينبوع الناموس، لأن الموسيقى، في يقينهم، هي الشفيع لتزكية كل ما انتمى إلى حرم القداسة.

ولكن الوصيّة لا تستقيم في صيغة وصيّة، لتنال شرعيّة قدسيّة، ما لم تعبر العقبة، لتحلّ في منازل الحكمة، لتحظى بمباركة السّدَنة، فتعرّج، في طريقها عبر التداول، على رسُلٍ آلوا على أنفسهم أن يطوفوا بها الصحاري، كي يزبروا منطوقها على الألواح الحجريّة، خوفاً عليها من بطش بعبعٍ إسمه النسيان، وهم يردّدون النداء، الذي كُتب له أن يغدو، في سيرة القوم، تميمة أجيالٍ: «لا سبيل لمن شاء أن يكفّر عن ضلاله سوى الإحتكام إلى آنهي»، قبل أن يأتي اليوم الذي أقبل فيه الداهية بالبشارة الفاجعة، المنطوقة بسؤالٍ عصيٍّ يقول: «حتّى أنت أيُّها الحجر، من الخلود في شكّ؟».

لم يجد محفل الحكمة، أمام هذا التحدّي، مفرّاً من البحث عن قابلةٍ أخرى، تستطيع أن تتولّى أمر جنينهم النفيس، بعد أن خذلهم الحجر!

تجادلوا طويلاً، كما اعتادوا أن يفعلوا كلّما حاق بالقبائل بلاءٌ، قبل أن يهتدوا إلى الجلد، إلى الرقوق المستقطعة من إهاب الحيوانات، لتكون المستودع الجديد للجنين القديم. فكما سخّروا المريدين يوماً ليتولّوا أمر حفر الوصايا في جدران الصلد، عبر صحراء اللابداية واللانهاية، كذلك قرروا أن يجنّدوا اليوم المريدين أيضاً، كي يتولّوا وَسْم الجلود بمدادٍ هو، في الواقع، نزيف يفوق في حقيقته نزيف الدمّ، لأنّه نزيف روحٍ، نزيف روح أمّة، مبثوثاً في أنفاس سخيّة، تسكن منطوقاً حميماً، هو، في القين، هوية تسكن  حزمة وصايا، صارت، بسلطان الإيمان، ناموساً، ورثه الأخلاف باسم «آنهي». ومن الطبيعي أن يهبّ فرسان القبائل تلبيةً لنداء الأكابر، ليتطوّعوا في ملحمةٍ من جنسٍ جديد، يختلف عن كل الغزوات التي اعتادوها لردع الأعادي، لأن إنقاذ الحكمة من الضياع أيضاً بطولة، بل هو قربان لأداء واجبٍ، كان في عرفهم، دوماً دَيناً مستحقّاً. يُقبل الفرسان ليستجلبوا من الواحات الأيدي التي ستحترف تطويع الجلود، لتستوي في رقع، قابلة لأن تتحوّل متاعاً يستطيع القوم حمله في ترحالهم، كما اعتادوا أن يحملوا بيوتهم، ليتوسّدوه كلّما حلّوا في أرضٍ ليلتقطوا أنفاسهم، صَوناً له من وباءٍ إسمه المحو، اعتاد أن يتسلّل، متنكّراً في أقنعة الرياح، ليختطف الحروف من سجلّ الحجر، ويتغلغل في عروق الذاكرة، ليصيبها بورمٍ خبيثٍ هو: النسيان!

وليس لنا إلاّ أن نتخيّل ماذا يعني القيام بالحملة القادرة على تحويل الذخيرة المبعثرة عبر أكبر صحاري كوكب ما تحت قبّة السماء، لنقلها لتستقرّ في بطون رقوق الجلد. حملة من الطبيعي أن تستغرق عشرات الأعوام، ومن الطبيعي أيضاً أن تستهلك نزيف عرق آلاف الرجال، الذين انتشروا في الأرض لاقتناص آثار الأوائل، المزبورة على ألواح الحجارة في الكهوف، أو على صخور السفوح الجبليّة، أو حتى على الصلد المطروح في قيعان الوديان. وهو ما لم يكن ليتحقّق، بالطبع، بدون الجود بقرابين بشريّة، كما تروي الأجيال.

استطاع التدبير أن ينقذ الوصايا من بطش الرياح، ومن طعن الغيوث، ومن قسوة الشموس في الأصياف، ومن عبث الهمج في البقاع، ولكن الحيلة لم تكن لتنطلي على داهية الدهاة المدعو في لسان القوم: زماناً!

تسلّل الزمن إلى المتون في مخابئها الجلديّة، واستباح حرمة الحصون الخشبية التي أحسن الحرفيّون تلفيقها، كي تحمي حروف الأبجدية من تلفٍ محمولٍ في بصمات الأيدي، وفي غزوات الغبار، وفي استهتار الصبيان، وفي جهل الهواة، ولم يخطر ببال كهنة القبائل أن يبقى الزمن على الصحف جلّاداً خالداً، في حربه المسعورة ضدّ كل احتيالٍ من شأنه أن يُجير خصمه الأبديّ: الذاكرة!

فالملحمة كلّها كانت صنيعاً وجيعاً لحبك ترياقٍ، يستطيع أن يقاوم غول المحو، خوفاً على الذاكرة من كيد الزمن، الذي يسري في أعطافه العدم.

وكان على الليل أن يتبادل الطواف مع قرينه النهار، فتتدفّق في الوديان سيول مواسمٍ سخيّةٍ، قبل أن يكتشف دهاة القبائل في أحد الأيام، كم هي أحمال الأسفار وِزرٌ ثقيل، تنوء تحت وطأته الدواب، وتعجز ربّات البيوت في عمل ما من شأنه أن يحميه من الضرر، كلّما حطّوا في ترحالهم للعناية بالمتاع: المتاع الذي كان في حياة كل مهاجرٍ أبديّ بالطبيعة قيداً، وَتداً، غلّ أغلال!

 ولم يجد الاشياخ مفرّاً من الدعوة لقرع طبول الحرب، لا لحشد الفرسان استعداداً لصدّ غزو هذه المرّة، ولكن لاستدعاء الحكماء للإلتئام في مجلس العقلاء، كي يتواصَوا في شأن مصير الكنز، في شأن مصير الوِزر الوحيد الأنفس من كل الكنوز. ويقال أن الجدل احتدم في محفل الحكمة لأمدٍ استغرق، في حساب الزمن، عاماً. وقيل في رواية أخرى أنه استغرق أعواماً، قبل أن يتوصّل الدهاة إلى الاقتراح القاضي بالموافقة على استيداع أحمال الرقوق لدى سدنة المعابد في الواحات، بفارق صوتٍ وحيد!

ولكن المثير هو ما حدث بعد هذا الحدث: فيروي رواة الأجيال أن صاحب الصوت الذي حقق الأغلبية في المجمع، أقبل على زعيم المحفل، في اليوم التالي، ليعلن، في حضرة الزعيم، سحب الصوت!

توضّحه الزعيم بفضولٍ، ليكتشف في الحكيم بلبلةٍ لم يعهدها، وعندما استفهم، اعترف الرجل بأن وفداً مهيباً من ملّة السلف قام بزيارته في المنام، وطوّقَ عنقه بوعيدٍ مترجمٍ في وصيّةٍ تقول: «إذا أبحتم لأنفسكم التنازل عن كنزٍ هو أمانةٌ في عنقكم، فسوف تسلّمون بهذا العمل الطائش في يقينكم، وإذا هان عليكم التسليم في يقينكم، فسوف تبيعون لأقنان الواحات ناموسكم، وسوف لن يُكتب لكم أن تسترجعوه منهم إلى الأبد، لأنكم سوف تكتبون، بهذا العمل، شهادة وفاتكم بأيديكم»!

كان الرجل يرتجف عندما انتهى من سرد النبوءة؛ وكم تعجّب زعيم المحافل وهو يكتشف كيف انتقلت عدوى الرعدة على يديه، ثمّ إلى بقيّة أطرافه، ثم إلى كامل جسده. كان محموماً عندما استدعى الأعوان، وأمرهم أن يقرعوا طبول الحرب مرة أخرى، ولكن بعد فوات الأوان!

فيروى أن زعماء القبائل لم يختفوا عن الأنظار وحسب، بعد انتهاء مجمع الأعوام، ولكنهم تبخّروا. بحث عنهم الفرسان في كل مكان، ولكنهم لم يعثروا لهم على أثر. تعجّب الزعيم لسرعة انقطاع دابر الأشياخ من الصحراء كأنهم أشباح.

أشباح؟

كان حكيم النبوءة هو الذي نبّه إلى حقيقة الأشباح، مال نحو الزعيم وهمس له بهاجس؛ قيل أنه قال أن أهل الخفاء اندسّوا في المحفل، وقد تنكّروا في أجرام بعض الأشياخ، كي ينتقموا من القبائل بسبب التجديف في حقّ العهد القديم. وعندما تساءل الزعيم عن سيرة التجديف في العهد القديم، تكلّم الحكيم فذكّر قائلاً بأن أقوام الجنّ هم أهل الصحراء الأوئل، وما قبائل الأنام في رحابها سوى أضياف حلّت في أوطانهم بعد فرارها من البلاء الذي حاق ببلادها في الأقيانوس، فهاجرت شرقاً، لتحطّ الرحال في الصحراء، وقد نشبت معارك دامية بين الفريقين في الأزمنة الأبعد منالاً، بسبب الأرض تارةً، وبسبب النساء في أغلب الأحوال، ولم يهيمن في الصحراء سِلْمٌ إلّا بعد الهدنة التي تُوّجت بعهدٍ مبرمٍ بين الملّتين، يكفّ بموجبه الإنس على مواصلة إغواء حسان مستضيفيهم، على أن يقبل الأضياف أيضاً الإقلاع عن إدمان اقتناء معدن الذهب، والإعتراف به عملةً محرّمةً على ملّتهم، ليبقى حكراً على سلالتهم، في حين ترتضي لهم قبائل الجنّ الفضّة عملةً، ولكن الأضياف هم من استهان ببنود هذا العهد دوماً، باحترافهم إستدراج حسان مستضيفيهم، ودأبهم على اختلاس كنوز الذهب، ولم يكتفوا، ولكنهم أدخلوا للحرم معدناً خبيثاً هو الحديد، فسفكوا الدماء، ودنّسوا الأرض بالآثام، وسوف لن يُكتب للصحراء أن تتطهّر من كبائر الإنس، ما لم يتم الإهتداء إلى مكيدة تسحب الناموس من قلوبهم؛ لأنّه الضمان  الذي سيسحب أرواحهم من أبدانهم. فما كان من دُهاتهم إلّا أن تقمّصوا أجرام الأنام، كما اعتادوا أن يفعلوا دوماً كلّما شاءوا أن يحبكوا في حقّ الخصوم أمراً مُريباً.

أخفق الزعيم في استعادة أوصياء المحفل الذين تبدّدوا، فبطل مفعول الحجّة القاضية بإعادة النظر في حكم المحفل بشأن إيداع متون الناموس في خزائن دور العبادة، المتحصّنة وراء أسوار الواحات؛ وكان عليه أن يشهد جحافل القوافل، الحاملة لأثقال الوديعة النفيسة، وهي تقطع المسافات في طريقها إلى أركان الدنيا الأربعة، لتحلّ في «غدامس» أو في «تامنغست» أو «تنبكتو» أو «سجلماست» أو «آدري»، أو «زلّة» أو «سيوة»، لتعبر إلى الواحات التّليدة، التي تتوسّط سَيْلاً سخيّاً، خالداً، مقبلاً من المجهول، مخترقاً فيافي القارّة الصحراء، في طريقه نحو المصبّ، الملقّب في لسان القدماء باسم «إن ـ إيل» (نيل) التي تعني في رطانات الأمم الفانية: «ذو الألوهة»!

ولم يفت الأخيار أن يتغنّوا، وهم يشهدون ملحمة الضياع، المترجمة في هجرة الكنز النفيس، بوصايا ورثوها خلَفاً عن سلف في حرفٍ يقول: «نستطيع أن نقرّ بوجود أحمالٍ تدخل إلى بطون الأسواق، لتخرج منها، ولكن ليس لنا أن نطمع في أن نشهد بوجود أحمالٍ دخلت يوماً إلى بطون المعابد، ثم حدث وخرجت منها، لأن الأحمال التي تغيب في أفواه دور العبادة، لا تلبث أن تُبتلع، فلا تعود تخرج من الجوف يوماً، مهما استبدلت المعابد أقنعتها، كما اعتادت أن تفعل، دون أن تتنازل عن طبيعتها، في ابتلاع غنيمتها، لأن ما يستودع في بيت المعبود، هو قربانٌ مطروحٌ زلفى للمعبود، وهو عطاء غير قابل للإسترجاع، بسبب طبيعته القدسيّة كنذور. فتجديفٌ هو أن نطمع في أن يعود، ما وُهب للمعبود».

الأخيار وحدهم نزفوا مصيبتهم، يوم وقفوا يودّعون القوافل، التي انطلقت بالأحمال، المسكونة بالحقيقة، لأنهم أدركوا أن ضياعهم، لم يبدأ يوم فرّوا من وطنهم المنكوب في قلب الأقيانوس، لينزلوا صحراء الأبد، ولكن ضياعهم بدأ يوم قبلوا بحُكم المحفل، القاضي باستيداع روحهم رقوقاً، فذهبوا طوعاً، ليستودعوها المستودع الذي لن تعود منه أبداً.

أمّا حكيم النبوءة، الذي لم يكن في المحفل الشقيّ سوى عرّاف القبيلة، فقد اختفى من النجوع بعدها فجأة. فتّشوا عنه في كل مكان، ولكنهم لم يعثروا له على أثر. وكان على القوم أن ينتظروا أمداً حتى يلفظه الغمر، فيطفوا في قاع البئر!