كلُّ شيء، في هذا الخطاب، آخذٌ طريقَه إلى النهاية، يعني إلى الزّوال: أفكار، عقائد، إيديولوجيّات، مؤسّسات، ظواهر اجتماعيّة... الخ، ولكن من غير أن تتبدّى ملامحُ جديدٍ آخر قادمٍ من وراء تلك النّهايات. من البيّن أنّ الخطاب هذا مزيجٌ هجين من التّاريخانيّة، ومن التّطوّرية الدّاروينيّة، ثمّ من الحتمويّة العلميّة واستعادةٌ كاريكاتوريّة لها. ولكن، بينما كانت هذه النّزعات الفكريّة تبرّر نفسَها بفتوحاتها الفكريّة والعلميّة، ظلّ خطاب النّهايات مجرّد دعوى لا دليل عليها من واقعٍ ولا نسقٌ من فكرٍ يحملها! والأهمّ من فقر الخطاب هذا، معرفيّاً، أنّه لا يقترح على الضّمير الإنسانيّ سوى اليأس والشّعور الحادّ بانسداد الأفق!

كان فوكوياما أوّل مَن دشّن القول بـ «النّهايات» من المعاصرين - في كتابه نهاية التّاريخ- وهو يحتفل بهزيمة الاشتراكيّة أمام الرّأسماليّة واللّيبراليّة، متوسّلاً المفاهيم الهيغليّة مقروءَةً من كوجيڤ.  بعدها تعاقب القائلون بالنّهاية، وتعاقبتِ الظّواهر التي نزل عليها قانون النّهاية. وكنّا قد كتبنا دراسةً في نقد هذه الظّاهرة، في منتصف التّسعينيّات، من مدخل نقد أزعومةٍ رائجة، في ذلك الحين، هي أزعومة «نهاية الإيديولوجيا» بأنّها هي، أيضاً، لا تعدو أن تكون إيديولوجيا وأنّ هذه، بالتّالي (أي الإيديولوجيا)، ليست ظاهرة مصطنَعة لكي تنتهي، بل هي من صميم الوجود الإنسانيّ، وممّا يجيب به النّاس عن حاجات ومطالب موضوعيّة.

وما كانت حملة «نهاية الإيديولوجيا» قد انطلقت، حتّى كانت تحصُد نقائضَها ثماراً مُرّة؛ فلقد ثبتَ أنّ عهد «ما بعد الإيديولوجيا» عهدٌ إيديولوجيّ بامتياز؛ وأنّ نهاية الصّراع الإيديولوجيّ، في حقبة الحرب الباردة، لم تَطْوِ صفحةَ الإيديولوجيا، نهائيّاً، بقدر ما فتحت صفحةً جديدة تكتب فيها هذه سيرتَها المتجدّدة. ثبتَ، أكثر من ذلك، أنّه ما من عصرٍ إيديولوجيّ في التّاريخ الإنسانيّ ضارعَ هذا العصر الجديد- عصر العولمة - في استهلاك الخطاب الإيديولوجيّ وتصنيعه، والتّفنُّن في صوغه وتسويقه. يكفي المرء أن يقرأ الخطاب السّياسيّ والإعلاميّ والثّقافيّ السّائد في العالم، اليوم، كي يقف على ما فيه من مُعْلَن إيديولوجيّ صريح، ناهيك بمُضْمَراته التي لا تتبيّن إلاّ للتّحليل؛ وخطاب النّهايات، المتدفّق علينا في العقود الثّلاثة الأخيرة، مِن أَظْهَر ما هو مُعْلَن في الكلام الإيديولوجيّ السّائل.

على مثال «نهاية التّاريخ» و«نهاية الإيديولوجيا»، انطلق الكلام على «نهاية الدّولة». اتّخذ الكلامُ هذا نقطةَ انطلاقٍ واقعيّة غيرِ افتراضيّة، في البدايات، هي: محنة الدّولة مع العولمة وبداية انحلال عُرى أساساتها: السّيادة؛ استقلاليّة القرار؛ مرجعيّة التّشريع؛ الوَلاية القانونيّة على رعاياها؛ النّظم الحمائيّة التّجاريّة...إلخ. ولقد أتت وقائع فاجعة تعرّضت لها الدّولة، مثل حروبٍ أهليّة، أو عمليّات انفصال، أو تمرّدات مناطقيّة مسلّحة، أو إرهاب... هبطت بأوضاعها إلى حالة «الدّولة الفاشلة»؛ فأتى ذلك يعزِّز فرضيّة نهايتها لدى من قالوا بذلك! وما من شكّ في أنّ العولمة دَهْوَرت أوضاع الدّولة ونالت منها كثيراً، في أغلب مناطق العالم، ولكنّ هذا ليس قرينةً على «نهاية الدّولة»، كظاهرة اجتماعيّة. والأغرب من ذلك أنّ الذين يذهبون إلى هذا الاستنتاج ينسون - أو يتناسون - أنّ العولمةَ نفسَها ثمرةٌ من ثمرات الدّولة، وأنّ الدّول الكبرى هي مَن يتحكّم فيها. قـد تـزول دولٌ بعينها - وقد زالت دولٌ من التّاريخ - وتتغيّر الخرائط الكيانيّة. ولكنّ هذا شيء وزوال ظاهرة الدّولة شيءٌ ثانٍ مختلفٌ تمام الاختلاف.

ولم يلبث الكلام على «نهاية المجتمع» أن شرع في الإفصاح عن نفسه في كتابات عالِمة لسوسيولوجيّين كثر، وفي خطاباتٍ إعلاميّة وحركيّة في بلدان الغرب. ومرّةً أخرى كانت «نهاية المجتمع» تستقي مادَّتها التي «دَلَّت» عليها من وقائعَ ثلاث: من التّآكل التّدريجيّ للدّولة وفقدانها القدرة على إدارة المجتمع، في مناطق كثيرة من العالم؛ ومن تفكُّك مجتمعاتٍ وانقسامها إلى وحدات أهليّة مغلقة وانفجار الصّراعات بينها، والبُدُوِّ بمظهر الجماعات غير القابلة للتّعايش بينها بعد تمزُّق نسيجها الاندماجيّ؛ ثمّ من تزايد صعود النّزعة الفردانيّة وما يقترن بها من تَحَلُّلٍ للرّوابط التي تشدُّ الأفراد إلى البنى والمؤسّسات والعلاقات المجتمعيّة. جميع هذه بدت - لدعاة «نهاية المجتمع» - مؤشّراتٍ دالّةً على اقتراب تلك النّهاية التي سيَختفي فيها الاجتماعيُّ بعد كسوفه بعبارة مارسيل غوشيه. لكنّ أحداً من فرسان هذا الخطاب لم يطرح على نفسه السّؤال الفلسفيّ الابتدائيّ عمّا إذا كان الإنسان؛ هذا الحيوان الاجتماعيّ - بعبارة أرسطو- يملك أن يعيش بمعزلٍ من المحيط الاجتماعي؟ هذا من دون أن نسألهم نوع الهندسة الاجتماعيّة التي يتصوّرونها للوجود الإنسانيّ في حقبة «ما بعد المجتمعات».

تدور كلّ هذه التّصوّرات الرؤيويّة المروِّعة (Apocalyptiques) على «نهايات» لا يُراد بها، في المطاف الأخير، غير التّبشير ببداياتٍ شارِعةٍ في البُدُوّ وأظْهرَها: بداية الفرد بما هو الجوهر والأساس للوجود الإنسانيّ. إنّها الفردانيّة، إذن، في طبعتها الجديدة؛ تلك التي تريده وريثاً يرث الدّولة والمجتمع بعد «زوالهما»! لم نسألهم، بوصفهم السّاحرَ الذي سينقلب عليه السّحر، في ما إذا كان بعيداً ذلك الزّمن الذي سنشهد فيه على دعواتٍ نظيرٍ من قبيل «نهاية الفرد» (والمقصود نهاية ملكوته الفردانيّ الوهميّ وعودته إلى حدوده الطّبيعيّة كعضوٍ منتمٍ إلى المجتمع والدّولة)، بل نكتفي بأن نسألهم في ما إذا كانوا قد انتبهوا إلى مطبّ خطابهم؛ أعني: إلى أنّ أيلولةَ القول بـ «نهاية الدّولة» و«نهاية المجتمع» هي، حكماً، إلى «نهاية الفرد»!