استمعت إلى رسالة الاستغاثة التي أرسلها أحد أفراد خفر السواحل الفرنسي الذي كان أول من وصل إلى موقع غرق 27 شخصا في القنال الانجليزي. ثم مقابلته مع سكاي نيوز ووصفه للكارثة غير المسبوقة وهو ينتشل جثث الضحايا من المياه. ووصف المشهد بأنه يشبه فيلم "تيتانيك" حيث تشاهد كل هؤلاء الناس يغرقون دون أي فرصة لإنقاذهم. إن كان ركاب تيتانيك مسافرين على سفينة ركاب فاخرة للاستمتاع فعشرات الركاب في القارب الصغير الذي غرق ما بين فرنسا وإنجلترا هم هاربون من أوطانهم سعيا وراء اللجوء في بلاد الغرب. ولا يعرف كم دفعوا، ربما كل ثروتهم، لهذه الرحلة المأساوية من بلادهم كالعراق والصومال وغيرها ليصلوا إلى بريطانيا.

اختلاف المشهد يجعل المرء يراه وكأنه "غرق الانسانية"، خاصة حين يقارنه بحديث وزيرة داخلية بريطانيا في البرلمان وهي تبرر وتلوم فرنسا أو تصريحات المسؤولين الفرنسيين وهم يلقون باللوم على الحكومة البريطانية. ولا نريد أن نذهب بعيدا لنفكر كيف أن مأساة هؤلاء المهاجرين "غير الشرعيين" ومئات الآلاف أمثالهم هي نتيجة سياسات العالم تجاه بلدانهم الأصلية بتواطؤ من نخب وقيادات تلك الدول أحيانا.

لكن هناك الكثير في تفاصيل تلك الحادثة المأساوية مما يكشف عن مدى ابتعاد العالم في أغلبه عن السلوك الإنساني القويم. فالعصابات التي تقوم بتهريب هؤلاء البؤساء من البشر، وأغلبهم عرب، لا يمكن ألا تكون معروفة لأجهزة الأمن في البلدان الغربية – خاصة فرنسا وبريطانيا اللتين تفاخران دوما بكفاءة أجهزتها.

نعم، تمتد الشواطئ الفرنسية حول كاليه ودنكيرك مئات الكيلومترات، وقد يصعب توفير قوات أمن لمراقبتها طوال الوقت. لكن، إذا كان هناك اهتمام حقيقي فالوصول إلى عصابات التهريب ممكن ويمنع تلك الكوارث قبل أن تصبح محتملة. كذلك الأمر في بريطانيا، فقد ألقي القبض منذ سنوات على أحد زعماء عصابات تهريب البشر لكن المتابعة لم تكن جدية فيما بعد. حتى الحادثة الشهيرة لسائق الشاحنة الذي تركها قرب لندن ليعثر فيما بعد على عشرات الآسيويين موتى بداخلها بعدما نقلهم من فرنسا وتركها مقفولة عليهم، كانت فرصة للأجهزة لم تستغلها للوصول إلى أمثاله من المهربين.

هل فاجعة غرق الإنسانية في القنال الإنجليزي ستغير الكثير؟ لا أظن. هناك ناجيان وحيدان من الحادث الكارثي، هما عراقي وصومالي، نقلا إلى المستشفى بعد تعرضهما لصدمة انهيار درجة حرارة الجسم. هل ستستجوبهما السلطات الفرنسية لتصل إلى عصابات التهريب؟ ربما. لكن ذلك لن يحل مشكلة مخاطر تهريب البشر بين فرنسا وبريطانيا وبالتالي احتمال تكرار تلك الحوادث.

وزيرة الداخلية البريطانية قالت أمام البرلمان إن الكارثة كانت متوقعة. فماذا فعلت حكومتها لتقليل احتمال حدوثها؟ لا شيء. الفرنسيون يقولون إن هؤلاء الراغبين في اللجوء لا يريدون البقاء في فرنسا ويرغبون في الذهاب إلى بريطانيا بأي طريقة، فماذا فعلت السلطات الفرنسية لتنسق مع البريطانيين وتحمي هؤلاء من عصابات التهريب؟ لا شيء.

بين فرنسا وبريطانيا الكثير، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) نهائيا مطلع هذا العام. ولا نقول إن البلدين لا ينسيان الحرب التاريخية بينمها قبل قرون والتي استمرت لعقود. فالعالم يتغير ويتجاوز كل ذلك الإرث الدامي، خاصة في الغرب وفي أوروبا تحديدا. لكن خلافات السياسة مؤخرا بين البلدين، والتي تراها منعكسة في تكرار الصدام بشأن الصيد البحري أو قيود السفر والانتقال.

لكن استغلال طالبي اللجوء من الفارين من أوطانهم بحثا عن حياة في الصراع السياسي بين البلدين يهبط بإنسانيتهما إلى مستويات متدنية. حتى لوم هؤلاء المهاجرين طالبي اللجوء على تسليم مصيرهم لمجرمين غير مستساغ. نعم، تم تحميل ما يصل إلى 50 شخصا في قارب صغير بسيط أقصى حمولة له لا تصل إلى 20 شخصا. وبالتأكيد نزلوا خلسة من نقطة بعيدة عن المراقبة من خفر السواحل يعرفها المهربون. لكن من الصعب تصور أنه من الصعب منعهم، فهذه ليست حدود "مفتوحة وسائبة"، وليست في بلد يفتقر إلى التكنولوجيا والموارد لمراقبة حدوده البحرية. ألا يصدعوننا يوميا بالقدرات الاستثنائية للاستطلاع وجمع المعلومات وما إلى ذلك!

لكن الفرنسيين والإنجليز على السواء وجدوا في مأساة هؤلاء المشردين من أوطانهم وهشاشة أوضاعهم "أداة" إضافية للمناورات السياسية في الصراع المستمر بين البلدين. ويا حبذا لو كانت الأداة "مثيرة" لتعلية سقف تبادل الاتهامات وتسجيل النقط بين الطرفين! أليس ذلك بالضبط غرق للإنسانية في بحر خلافات سياسية؟