دعوة لاستنطاق حقيقة بحرف المنطق، تحريض على استظهار، الخروج فيه دليل على وجود نيّة في الرؤية. دليل على وجود استعداد لخوض مغامرة كشفٍ. كشفٌ لتبديد غيهب الحرف، للعبور إلى فردوس الروح. وهو ما لا يتحقق بدون استخدام الخطاب لترويض العلاقة، لأننا كلّنا سجناء. سجناء عزلتنا. سجناء أحلامنا. سجناء باطلنا، ولا نستيقظ من غيبوبتنا، إلّا بحجّة حبّ!

بحجّة حبّ؟ أليس الأنسب أن نقول صدمة حبّ؟ أو بالأصحّ الصدمة التي تُحيي فينا التوق لسداد دَيْنٍ هو الحبّ. لنتطهّر بفضل هذه الأعراف من دنس الملكية، التي لم يجد إمام في مقام الثعالبي حرجاً في أن يحسن بها الظنّ عندما قال "كل مالٍ صامتٍ أو ناطقٍ فهو علاقة"؟ وجوديّاً هي بالفعل علاقة، ولكنها العلاقة بحطام الدنيا، الذي يغرّبنا عن ذوي القربى، وعن حقيقتنا، ولذا فهي علاقة اللعنة، في مقابل حميمية العلاقة مع الصديق، التي نصّبها حكيم آخر هو أفلاطون شرطاً للسعادة، بحكم قدسية الصفقة التي يتبادل فيها قطبان اثنان عجلتين مريرتين، أو روحَين جريحتين.

في زيارته الثانية إلى أرجوحة اغترابي، أتحفني جمال العرضاوي في طوافه بالمزيد. وضع بين يديّ أنشودته، بل أودسيته، المعنونة بـ"جيش الماء"، لأجد في سطورها روح الإنسان الذي اختطّها، روح الإنسان المهاجر، روح العابر نفسه، الذي تغنّى بنداء: "أيها الطارق بابي استقبلني!"، لأنها دعوة أخرى أقوى حجّة؛ للتحرر من واقع الحرف المميت، لنزول فراديس الروح التي تُحيي. روح إنسان لم يعتنق دين الفرار إلّا لكي ينبّهنا إلى حقيقة وجودنا المدنّس بسَمّ الخِياط؛ وجودنا الملوّث بجرثوم اغتراب، بعد أن سرى في شرايينه فايروس التقنية، تقنية المعلومة تحديداً، المعادية للجمال، المعادية للشعر، المعادية للحكمة، المعادية للحبّ، لتشلّ فينا أنفاس قدس أقداس هو الحدس، فتُبدّد فينا شطح التجلّي، لنكتشف بعد فوات الأوان كم نحن في هذا العالم رهائن! رهائن كما أبطال الرواية العصيّة، حيث تسكن أطيافٌ تتنازع دمية الأزمنة. تتنازع البطولة. ولذا فالكل مسكون. الكل مزموم. الكل مأزوم. الكلّ مهزوم. فأيُّ قدرٍ يمكن أن يعوّل عليه النموذج الملهم إن لم يكن مسّاً من هزيمة؟ فقدر الرجال، قدر الأبطال، كما يقال، ألّا يذوقوا طعماً لسعادة، ما لم تكن مجبولةً بنصيبٍ سخيّ من كآبة. ولهذا السبب هم دراميّون في استماتتهم للتنصّل من أوحال باطل أباطيلهم. فهم مأساويّون، ما راهنوا على التغيير، ما راهنوا على التحرير. ففي عالمٍ مفلس لا مفرّ من الخروج. والخروج هنا قاسم مشترك أعظم للعمَلين. فكما في الديوان، كذلك في أوديسة "جيش الماء"، الخروج ملاذ. الخروج خلاص. الخروج صلاة. الخروج ببُعدَيه الحرفيّ والمجازي. الدنيوي والروحي. الخروج من حبوس الحرف أيضاً إغواء. الخروج إلى البريّة أيضاً استشفاء. الخروج إلى الصحراء أيضاً استعداد لخوض تجربة نبوّة. الحلول في حرم الصحراء أيضاً جودٌ في صيغة القربان. الخروج دوماً غزوة مسربة بنزيف حرية. ولهذا السبب الخروج معراج. الخروج معراجٌ أعظم شأناً في بُعد الدعوة للتخلّص من ترف انتظار خلاصٍ يأتي هبةً بمشيئة مجّان. فالخروج في بُعده الروحي تجربة بعث نُميت فيها إنساناً، لنحيي فينا إنساناً آخر، كي نحقّق ميلادنا الثاني. ميلادنا الحقيقي. ميلادنا الروحي، المصحّح لخطايا ميلادنا الحرفي، ميلادنا الطبيعي، لكي نكون أهلاً بحقّ لدخول ملكوت الربّ.

فـ"جيش الماء" كأيّ عمل وجداني، ترويض للرؤية، للتحريض على حريّة هي دوماً عصب الشجعان. والشجاعة، كما تعلّم التجربة، غنيمة مأساة، مهما طاب لها أن تتقنّع بمسوح الملهاة، كما في "دون كيخوت". فهي عمل أوليسي، يليق بمن أدمن عبور السبيل مبكّراً، ليستمرئ تعاطي فاكهة عصيّة، نسمّيها في رطانات الدراويش حقيقةً، في حين يرجمها أغيار الباطل باسم الملل. الحقيقة صارت رهينة الملل منذ صارت التسلية حرفة الترف.

فما لا يحتمل في وجودنا هو الحقيقة. لماذا؟ لأنها صديقة، ولكنها ليست وديّة، ليست حميميّة، بل طاردة. صادمة. ونحن ملّة ضعيفة. خاملة. مترفة. كسولة. نستمرئ التسلية. نستمرئ التسلية الخبيئة في بطن كل أكذوبة. الأكذوبة جاذبة. الأكذوبة حسناء. بل هي الغانية اللعوب. ولذا تستهوينا. لذا نحن ضحايا إغواء بالسليقة. وفتنتها في قدرتها على ارتداء الأقنعة. فنحن أمّة لا تريد أن تحترف ما يجدي، ولهذا ندمن ما لا يُجدي. فما يستهوينا بسلطان الفتنة دوماً ضرر، ولكنّنا نفضّله لأنه يدلّلنا. نفضّله لأنه يغذّي فينا الشغف للعب. اللعب الذي يعزّينا. اللعب الذي ينسينا محنتنا. ينسينا وجوداً هو في كل الأحوال ألم، بقدر ما هو أملٌ. بقدر ما هو مللٌ أيضاً. فلا نبحث عن المعنى، ولكننا نبتدع الحيل لكي ننخدع، فنحترف التسلية لكي ننسى. نخترع تقنيةً تختلس فينا الروح لتهبنا الخواء بالمقابل، كما الحال مع أفيون الحداثة، الملقّب في منطقنا بــ"تقنية المعلومة"، تلك الدمية الآثمة، الملفّقة كلها من سَمّ الخياط. فأين موقع الأمثولة التي تتغنّى بالحقيقة في عالم يهيمن فيه الزور، الذي لا غنى لنا عنه، برغم أننا ندري جيّداً أننا لسنا معنيّين به، فلا نستحي أن نقلب وصيّة القدّيس: "نحن غير معنيّين بما يُرى، ولكن بما لا يُرَى، لأن الأشياء التي تُرى وقتيّة، أمّا الأشياء التي لا تُرى فأبديّة"، لتغدو: "نحن معنيّون بالأشياء التي تُرَى، وليس بالأشياء التي لا تُرَى، لأن الأشياء التي تُرى وقتيّة، أما الأشياء التي لا ترى فأبديّة!". نجدّف في حقّ الحقيقة لأننا أهل حرف، ولا ننوي أن نعترف في منطقنا بوجود الروح. روح الطيف، روح المايسترو، روح أوليس الذي لم يكن له أن ينتمي إلى هذا العالم، ليفيض باغترابه هذا على أبطال مهزلته الأرضيّة، تماماً كما فاضت روح ديستويفسكي على نماذجه، فلا تعود تنتمي إلى واقع هذا العالم، كما يترنّم توماس إليوت، وهو موقف طبيعي إذا نبّهنا إلى حقيقة المايسترو الذي تنصّل من دنس هذا العالم منذ وقف أمام حبل المشنقة، فلم يعد من هناك أبداً، فيدلي لنا بشهادته من هناك، من وراء الكواليس، من وراء حجاب، من البعد المفقود، وهي معجزة أعمال هذا الشهيد الجدير وحده بأن يردّد مع مثاله الأعلى، المسيح: "حقيقتي ليست من هذا العالم"، جواباً على سؤال بيلاطوس: "ما هي الحقيقة؟"؛ فالرهان، كما يبدو، وكما برهنت التجربة الزهدية، هو على النزاهة، على التجرّد من سمّ الخياط، على القداسة. ولكن الدراما في أنّنا لا نستطيع أن نعتنق دين القداسة ثم نراهن على صياغة عالم الأشباح التي تسبح في واقع الدنس، كما يقضي قانون الرواية. فالتعبير عن الأحاضيض يستدعي عبور الأسافل، يستدعي عبور الجحيم. حقّاً، ولكن ليس بدون الاستعانة بعرّابة الأزمنة المنسيّة: الميثولوجيا! كيف لا تسري هذه التميمة في مسام عمل كـ"جيش الماء"، إذا كانت هي عرّافة الأجيال، التي أبدعت كل إبداع، وإلّا لما نصّبها روّاد الحكمة (أفلاطون ثمّ أرسطو) على عرش الإلهام، لتلعب دور القابلة، المخوّلة بتوليد أجنّة الروح من بطن الخافية، لتحاجج بشهادتها في أوطان البادية؟

فتجريد الواقع من بُعده كحرف، لينال منزلة إنسانية، ترتفع إلى مستوى النموذج، هو معراج لا يتحقق بدون تزكية من الأسطورة. فلا بقاء لإبداع بدون نفَس ميثولوجي. الميثوس، منذ الأزل، كانت كلمة السرّ، المعترف بها عالمياً لدخول ملكوت الخلود. ذلك أن الأسطورة ترجمان الروح.

فكم نموذج في محفل انتلجنسيا عالمنا يستطيع أن يتباهى باستيعاب درس "أوليسيس" جيمس جويس؟

يدلي عقل فلسفي ومرجع في علم النفس الفرويدي في مقام كارل غوستاف يونغ باعترافٍ لا يخلو من مفارقة: فقد تلقّى رواية "يوليسس" من المؤلف حال صدورها بالإنجليزية سنوات جمعهما المقام بمدينة زيوريخ بسويسرا، في وقتٍ جاورهما فيه توماس مانّ أثناء كفاحه في صياغة ملحمته "الجبل السحري". حاول يونغ قراءة أكثر الأعمال الروائية مللاً على مستوى العالم، فلم يفلح في قراءة أكثر من مائة صفحة، بعد جهد مرير، من مجموع الـ 735 صفحة، فاستبعدها زمناً طويلاً. ولكنه وجد نفسه مضطرّاً للعودة إليها عندما تلقّى رسالة من الناشر الألماني يرجوه فيها أن يتفضّل بتحرير مقدمة للرواية في طبعتها العاشرة بالألمانيّة، فلم يجد مفرّاً من أن يتساءل: الطبعة العاشرة؟ وبالألمانية أيضاً؟ في حقّ أكثر الأعمال الروائية مللاً؟ عاد مجبراً لمنازلة أوديسة الأزمنة الحديثة ليكتشف، ويا للعجب، أن ما ظنّه مللاً في الرواية إنّما كان حجّةً متعمّدة للبرهنة على.. ملل الوجود (!) في مرحلة كان فيها أدباء الغرب يتغنّون، في لحون جماعيّة، بالانتماء إلى الجيل الضائع، لتغدو النزعة العدميّة هي الأنشودة المهيمنة في واقع الغرب الثقافي. فما هو الوجود، الذي يتلبّسه الملل كأنّه الورم؟ أليس هو الحقيقة، بالمفهوم الإغريقي، القرين لمصطلح "أليثيا" كاستظهار؟ وكيف لا تكون الحقيقة مملّة إذا كنّا الشهود على فتنة الأكذوبة التي تستدرجنا فندمنها كحجّة منطق؟ أليست هذه الغانية اللعوب رهينة الاغواء الذي يسوّق في حياتنا إفيوناً كالتسلية، فلا نستيقظ من ضلالنا لنفتّش عن القيمة في نشاطنا، إلّا بعد فوات الأوان؟

عندما صدرت الرواية السابعة من ملحمة "البحث عن الزمن الضائع" في ترجمتها إلى الروسيّة، منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، لم أملك إلّا أن أعبّر، في جلسة مع أدباء سوفييت، عن سعادتي بالحدث، في حين علّق أحدهم بعبارة أدهشتني: "ومَن يستطيع أن يقرأ بروست هذه الأيام؟". وهو الموقف نفسه الذي فاجأني به الأدباء الألمان عندما اعترفتُ في إحدى الجلسات بمتعة قراءة "العالم كإرادة" لشوبنهاور. فالاغتراب عن النصّ الحقّ، الموسوم بما نسمّيه مللاً، لم يتوقّف في واقع عالمنا الثقافي عند هذا الحدّ، ولكن العقل الألماني، الذي كان له الفضل في صياغة نهضة أوروبا بسلطان التحدّي، يأبى إلّا أن يدهشنا عندما يتباهى بالتخلّي عن قراءة فرسان الفلسفة الكلاسيكية أمثال كانط أو فيخته أو هيغل أو شوبنهاور، كما فاجأتني صحفية ألمانيّة في إحدى الندوات التي أقيمت في فرانكفورت حول أعمالي منذ ربع قرن، وما يضاعف الدهشة هو هويّتها كصحفيّة، مخوّلة منطقياً بلعب دور الطليعة في تنوير واقع الرأي العام الألماني. فإن كان هذا حال واقع الحداثة في مستوى فكر، هو في المعادلة أصل، فكيف لا يغترب النصّ في واقع الظلّ، كما واقعنا، المغترب أصلاً عن الحكمة بحكم اغترابه عن عمقه الاستراتيجي، وهو التراث، ليزداد اغتراباً، كمُريد، عن فكر إنساني معرفيّ هو، في تجربته، بمثابة قطب؟

فإذا كان هذا هو موقف الملّة الوصيّة على الحقيقة في عالمنا، فكيف يدهشنا إقلاع المريدين عن معاندة "موبي ديك"، أو "يوليسيس" أو "البحث عن الزمن الضائع"، أو كل ما شاكل هذه المتون المحميّة ببعبع الملل؟ فالموقف العدائي في حقّ ما حقّ لنا أن نسمّيه "النصّ العصيّ"، هو، في الواقع، ترجمة للموقف من الحقيقة، التي اعتادت أن تستجير بتلابيب هذا الجنس "الصعب" من نصّ هو دوماً شهادتنا الوحيدة في استنطاق البعد الضائع في ظاهرة كانت وستبقى أحجية أحاجٍ كما الحال مع الوجود. وليس للأمثلة في "جيش الماء" أن تكون في القاعدة استثناء، في واقع خلا، في كلا التجربتين، من تزكية بقرون استشعار. فالموقف النقديّ من "موبي ديك" عند صدورها كان عدميّاً. وكان من الطبيعي أن يغترب العمل بخطيئة رؤية نقدية لم تر في الرواية عملاً روائياً، عملاً رؤيويّاً، ولكنها قرأت فيه ضرباً من شطح ذي روح بيئيّة، بل مجرّد بحث في شأن ذي علاقة بالطبيعة، لأن التلقين النقدي، هو القياس الشرعي، في عملية التلقّي. ومن الطبيعي أن يغيب التلقّي في أنشودة «جيش الماء» بسبب غياب الحكم النقدي، في واقع ثقافي لم يعد معنيّاً بالقيمة، بسبب ورم الإفلاس الروحي.

وكان على تقنية المعلومة أن تتدخّل بالطبع، لتلعب دور البطولة في تأجيج سُعار هذا الورم.

فلو احتكمنا إلى ساحة اللغة لنستطلع حقيقة هذه الأحجية، المدعوّة في العربية "مللاً"، فسوف نكتشف حميمية اقترانها بكلمة "أمل"، ليحقّ لنا أن نتساءل عمّا إذا لم يكن ما نملّه، هو اشتقاق من شقيق له في المنطق، وهو ما نأمله، لأن تحقيق ما نأمله، إنّما هو رهين احتمال ما نملّه، أي الصبر على مرارة ما نملّه. ليس هذا وحسب، لكن كلمة "إمَل" في اللغة البدئية إنّما تدلّ على "الوجود"، مما سيعني أن الحضور في هذا الوجود مَللٌ حقّاً، ولكنه الملل المحتمل بوجود الأمل، لأن العزاء يكمن في شفيع هو: الأمل. وهو ما سيعني أيضاً أن الملل هو الجدير بأن نعوّل عليه في تجربتنا؛ لأن استيعاب درس الحقيقة، كان دوماً رهين الموهبة في التعاطي مع المملّ. هذا هو البُعد الغيبيّ، (بُعد الاقتران التوأميّ بين الملل والوجود، الخبيء في أرومة اللغة) الذي اكتشفه جيمس جويس في تجربته، فكان له في أوديسته، أوليس، بمثابة شعرة شمشون في إبداع صرح عمله، المزاوج بين ملل السرد، كترجمة لمللٍ يسري عميقاً في كيان الوجود.

ملاحظة:

عندما تكون الذخيرة الوجدانية هي الشفيع في العمل الروائي، كما في "جيش الماء"، فإن المغامرة لن تضمن ألّا تتحوّل ضحيّة إقصاء، لأن الروح الغنائية، المفروضة بحرف الشعر، في المنطق الحداثي، الموبوء بجرثومة المعلومة، منذور للشكّ. ولهذا لا يدهشنا أن يغترب في واقعنا تعاطي الأعمال المحبوكة بأنفاس الوجدان، الملفّقة من طينة حدس، الملقّبة في نظرية الأدب باسم "تيّار الوعي"، كما في أعمال بروست أو فوكنر أو ملفل، تعبيراً عن موقف لا يقف عند حدّ العداء للنزعة الشعرية، ولكنه موقف عداء في حقّ الروح الملحميّة. موقف عداء لروح الإنشاد، في بُعده الديني، ممّا يطرح البرهان على خواء روح إنساننا الحداثي، المفتون بتقنيةٍ، استعارت في تجربته مفعول الوباء الوجدانيّ، بل مفعول الوباء الوجودي.

هيمنة الوباء في بُعده الوجودي هو ما يزوّر الفتنة في الواقع، ويحوّل الوَجْد مرثيّةً.

ولكن لماذا الجيش؟

الجيش في كل نشاط طاقة. الجيش قوّة. الجيش سلطة. الجيش في رحلة الوجود حُجّة. الجيش هو ما يحيل رحلة النزهة إلى غزوة. فكلّنا غزاة نسعى وراء بُغية.

ولكن لماذا الماء؟

الماء زاد أي طلعة، وإلّا لما صار في كل منطق برهاناً على انتماء إلى أمومة، لتستعير كل اللغات اسم الأمّ من ذخيرة هذه الميم القدسيّة، التي يرطن بها لسان كل وليد، في صرخة الاستهلال، لتكون جواز عبوره إلى بحر الوجود. بحر الوجود؟ بلى! الوجود أيضاً بحر. وهوميروس كان حكيماً بما يكفي لكي ينصّب البطل أوليس قبطاناً في سفينة سفر، هي في الواقع دمية تتلاعب بها أمواج البحر. تتلاعب بها أمواج بحر فجيع هو الوجود. السفر في منطق الميثوس قرين الوجود. والوجود قرين أوليس. والبُغية من وراء الغزوة دوماً تراجيديّة، سواء في حال إسماعيل "موبي ديك"، أو في حال سانتياغو همنغواي، أو يوليسس جويس، الكل يرتويّ من نبع النموذج الهوميري، الذي لا يتردّد في أن يعترف في النهاية باغتنام باطل الأباطيل في حمّى الطلب!

باطل الأباطيل، في مغامرة الحرف الذي يميت، بطل أبطال؛ وعبقرية اللغة كانت شجاعة بما يكفي كي تشتق كلمة "بطل" من مستودع "باطل"!