لكنّ هذا التّصحيح إن جرى، لن يستطيع - على أهميّته - أن يُخرج البلاد من النّفق الطائفيّ والمذهبيّ الذي زُجّ بها فيه منذ غزو العراق، وتدمير الدّولة والنّظام الوطنيّ فيها، وتركيب سلطة على مقاس شعبٍ فُكِّك إلى عصبيّات مغلَقة متنابذة وقُطِّعت أوصالُه مِزَقاً.

نعم، قد يشمل التّصحيح قرارَ العراق المصادَر بالنّظر إلى أنّ أكبر الكتل النّيابيّة، التي أنتجتها الانتخابات، مستقلّةُ الإرادة والقرار عن إيران وليست منساقةً مع سياسات حلفاء إيران الكُثر في البلاد، كما أنّها لا تَتْبع المرجعيّة في قُم ولا تعتنق نظريّة «ولاية الفقيه»، ناهيك بتمسُّكها بالعلاقة بالمحيط العربيّ وبعروبة العراق وأهلِ الشّيعة فيه. وما من شكٍّ في أنّ حكومةً تتألّف منها ومن حلفائها ستبدو مختلفةَ الخيارات السّياسيّة، على الأقلّ لجهة حفظ استقلاليّة القرار العراقيّ والكفّ عن الرّضوخ للإملاءات الإيرانيّة أو الأمريكيّة أو هُما معاً، كما هو الشّأن عند مَن كان ولاؤُهم - وما بَرِح - مزدوَجاً للدّولتين؛ وما أكثرهم بين القوى السّياسيّة العراقيّة!

لكنّ حكومةً بهذه المواصفات والاستعدادات، وعلى أهميّتها الانتقاليّة والحاجة إليها، لن تَقْوى على كفّ التّغلغل الأجنبيّ في شؤون البلاد؛ لن تقوى على منع إيران من تدخّلاتها اليوميّة من طريق حلفائها المحليّين، القادرين على إرباك السّلطة وأجهزتها والأمن والاستقرار لما يتمتّعون به من نفوذ حتّى داخل الأجهزة؛ ولن تقوى على وقف سياسات الضّغط الأمريكيّة: الاقتصاديّة والأمنيّة والسّياديّة (= القواعد العسكريّة في البلاد). وإذا أخذنا في الحسبان سوء العلاقة بين واشنطن وطهران، وانهيار الثّقة المتبادلة بينهما (وأزمة مفاوضات ڤيينا من تمظهراتها الرّئيس)، سيكون من الرّاجح أن يستمرّ العراق ساحةً لتبادُل رسائل العداء بينهما، ممّا يضع أمنه واستقراره على كفّ عفريت، ويفرض على الحكومة إيقاعاً من الأداء متواضعاً.

ليس من حلٍّ لأزمة العراق، إذن، إلاّ بإعادة تكوين نظامٍ سياسيّ وطنيّ فيه يكون جامعاً وتوحيديّاً، ويتعالى عن انقساماته العصبويّة التي أدخلته في نفق الصّراعات والاقتتال، فيبعث الشّعب الواحد والوطن الواحد من تحت رماد التّفتُّت والتّفكُّك والفُرقة والفتن. ما من سبيلٍ أمام العراق لكي يعود إلى أبنائه جميعاً غير هذا السّبيل؛ لأنّ أزمته بنيويّة لا طارئة: تكمَن في بنية النّظام السّياسيّ الذي أقيم فيه عقب تدمير كيان الدّولة الوطنيّة.

دستور بريمر - الذي ارتضته النّخب الطّائفيّة العراقيّة قانوناً أساسيّاً للدّولة - هو منبع المصائب التي حلّت بالعراق ومصدر تلك الأزمة البنيويّة. لقد أعاد تفصيل الدّولة والسّلطة والنّظام على مقاس عراقٍ مفكّك إلى ثلاثة أوصال أقواميّة ومذهبيّة: شيعة وسُنّة وكُرد، وقضى بقسمة السّلطة إلى حصصٍ ثلاث تستحوذ كلّ عصبيّة على واحدةٍ منها، بعد أن أفْردَ للكُرد شبه دولةٍ في محافظات كردستان الشّماليّة فضلاً عمّا لدى قياداتهم من حصّة في السّلطة «المركزيّة». وإلى ذلك زِيدَ في تكريس التّفكيك بتقسيم البلد إلى محافظات سنيّة وأخرى شيعيّة لكلٍّ منها نسبةٌ في التّمثيل، أمّا حماية نظام الاحتصاص (= المحاصصة) الطّائفيّ- المذهبيّ- الأقواميّ من التّداعي فَجَرَى السّعيُ إليها من طريق إنتاج نظامٍ مليشياويّ متعدّد الوجوه يحرس «الحدود» بين العصبيّات، ويصون «مكتسباتها». والنّظامُ المليشياويّ هذا اتّسَع نطاقاً وتَعَاظَم نفوذاً حتّى صارت «الدّولة» نفسُها رهينةً له وتحت رحمته!

غنيٌّ عن البيان، إذن، أنّ انتخابات تشريعيّةً كالتي جرت في أكتوبر الماضي، من داخل منطق هذه البنية ذاتها، لا تملك أن تُنتج الأدوات الكفيلةَ بمعالجة هذه الحال من التّعفُّن السّياسيّ البنيويّ العامّ. لا مهرب، إذن، من مقاربةٍ سياسيّة أخرى أعمق تتأدّى بالعراقيّين، في مطافها الأخير، إلى إنتاج نظامٍ وطنيّ بديل؛ مبناهُ على مبدإ الولاء للوطن الواحد والدّولة الواحدة، لا للخارج ولا للعصبيّة والطّائفيّة والمذهب؛ ومبناه على المواطنةِ مبدأً ومنظومةً وثقافةً جمعيّة. وما أغنانا عن القول إنّ مثل هذا النّظام لا يمكن أن يُبصر النّور إلاّ بإرادة العراقيّين أنفسهم، ومن طريق إطلاق حوار وطنيّ شاملٍ وعميقٍ بينهم يبني على حالة التّبرّم والرّفض الشّعبيّين التي أبداها المجتمع العراقيّ وحركاته المدنيّة ضدّ النّظام القائم، على نحو ما أفصحت عن ذلك سلسلة الانتفاضات المدنيّة التي اندلعت في العامين 2019 و2020.

وليس يمكن لمثل هذا الحوار الوطنيّ أن ينطلق ويتقدّم في حلّ مشكلات العراق إلاّ بحلّ المليشيات أو، في الأقلّ، وضْع مشكلة وجودها على جدول أعمال الحوار. أمّا إذا كان في حكم العسير أن يتداعى العراقيّون إلى  حوارٍ وطنيّ جامع لإنهاء الأزمة - بعد الذي وقَع بينهم من تَغالُب - فما من طريقةٍ أخرى بعدها على حمْلهم عليه سوى تعريب أزمتهم أو، قل، إدارتها عربيّاً، وذلك من طريق توافقٍ عربيّ على رعاية حلٍّ للأزمة العراقيّة نظيرَ ذلك الذي حصل حوله توافقٌ عربيّ على رعاية حلٍّ للأزمة اللّبنانيّة، فأتى حوار الطّائف و«اتّفاق الطّائف»، قبل نيّف وثلاثين عاماً، تطبيقاً لمقتضياته.