منذ عشرين عاماً، عندما كنّا نشارك في ندوة بكولونيا بألمانيا، نبّهني العزيز أدونيس إلى ظاهرة جديرة بالتأمل في عالمنا العربي، ألاَ وهي: الجهل بالآخر، ولا أقول تجاهل الآخر. قالي لي، في تشخيصه للمجتمع اللبناني، الذي عايشه طويلاً جداً، كيف يحيا نموذج المثقّف اللبناني المسلم، في واقع متعدد الهويات، الديني منها والإثني، فيصادق مسيحيّاً، على سبيل المثال، ويجاوره في بنيان المقام، وينتمي معه لمنظّمة حزبيّة واحدة، وبرغم كل هذا، لا يكلّف نفسه عناء قراءة كتاب هذا القرين!

ماذا يعني أن نصادق إنساناً مّا، ينتمي إلى هويّة مّا، ثمّ لا نبالي أن نقرأ كتاب هذا الإنسان؟

المقصود بالكتاب هنا بالطبع، هو ليس أي كتاب، ولكنه كتاب الإنسان المقدّس. لأن القياس في الكشف عن حقيقة أي إنسان، إنّما يسكن بطن كتابه المقدّس. لأن في صفة المقدّس هنا يقيم لا مفهوم معرفتنا للآخر فقط، ولكن في قدسيّة الخطوط تكمن هويّة الإنسان الروحيّة، سواء أكان هذا الإنسان مؤمناً، أم ملحداً. لأن التجربة برهنت أن الوصيّة المقدّسة التي نتوارثها خلفاً عن سلف هي قدس أقداس في موقفنا منها، مهما تظاهرنا باستخفافنا بها، فكيف إذا كانت الوصيّة الموروثة، مقدّسة حرفيّاً أيضاً، إلى جانب كونها دسيسة إرث، إرث لا نملك لإنكاره سبيلاً حتّى لو شئنا إنكاره، كما يحدث عادة عن تبنّي عقائد دخيلة كالأيديولوجيّات، التي تستهين بالديانات، وتحرّض معتنقيها على التجديف في حقّها؟

فإذا كان وجدان الإنسان رهين كتاب الإنسان كوثيقة قداسة، فإن الكتاب هنا يستعير مؤهّل الشهادة. الشهادة على وضع الروح الصحّي. أي مدى أن يكون هذا الإنسان سويّاً روحيّاً، حتّى لو حاول أن يتنصّل هذا الإنسان من الانتماء إلى كتابه، بإنكار درس كتابه!

فلهذا الجنس من الكتب سلطانٌ على كينونة الإنسان لا تُقهر، تظلّ تتغلغل، ولا تقنع أو تهنأ ما لم تعبر إلى اللّاوعي، لتستقرّ في الجينات: جينات الحدس أيضاً، لا جينات الحسّ، لتوسوس له بمنطق نبوءة تقول إنه كائن مؤمن، مهما أقنع نفسه بالتنصّل من إيمانه، كما لقّنه حزبه أو أبجديّات أيديولوجيّته.

لماذا يحدث هذا؟

يحدث هذا لأن الأيديولوجيا دوماً هبة مجّانيّة، مستعارة من خارج النظام الوجودي، الذي يلعب فيه مضمون أي كتاب مقدّس دور البطولة، فيستميت، كما يليق ببطل، حتّى لو تهيّأ لنموذجنا أنه ارتضى أن يفسح الطريق للمبدأ الدخيل، ولكننا سنكتشف أن التراجع ليس قبولاً بالهزيمة، ولكنه خدعة. تظاهر باستسلام، ولكنه، في الواقع، انسحاب من موقع هو الذاكرة، واستبداله بموقع أعظم حصانةً وأبعد منالاً هو: الضمير الذي يستغني عن مواهب المنطق، ويستخدم الحدس في الخطاب ترجماناً، ولهذا السبب سوف نظلّ نجهل حقيقة أي إنسان، حالفه الحظّ فورث عن أسلافه كتاباً، ما لم نقرأ كتابه، لأن في بطن هذا الكتاب تتخفّى ذخيرته الوجودية، لا المعرفيّة وحسب، حتّى أننا لن نغالي إذا قلنا إن ما يصدق على واقع إنسان كتب كتاباً، بحيث لا نستطيع أن ندّعي، بأي حال، معرفتنا بشخص مؤلّف هذا الكتاب، ما لم نقرأ كتابه!

فللكتب خصلة مذهلة، قادرة على أن تكشف لنا في شخص مؤلفه ما لم يخطر لنا على بال، بل وما لم يخطر على بال مؤلّفه أيضاً.

فالكتاب ليس مجرّد حُجّة. ليس مجرد شهادة. وليس أيضاً مجرد برهان على اعتراف في بعده الحرفي، ولكنه إذا اعترفنا به كاعتراف، فإنه اعتراف من جنس خاص. اعتراف أكثر من نفسيّ. اعتراف غيبيّ!

ولذا فالأصدقاء الذين يتوهّمون أنهم يعرفوننا، ويعلمون حقيقتنا، لمجرد حضورهم في واقعنا، سوف يصدمون، عندما يقرأون حقيقتنا، في حال تنازلوا عن استكبارهم وقرأوا كتابنا! ولهذا السبب يفضّلون البقاء على جهلهم بنا، عندما يرفضون قراءة صحيفتنا الحقيقية، خوفاً من أن تخيّب ظنونهم فينا، لكي لا يضطرّوا للتضحية بعلاقاتهم بنا. وهي عقلية يستطيع منطق الأشياء أن يغفرها، ولكن ما لا يُغتفر هو الموقف من الآخر، المنتمي لهوية أخرى، سواء أكانت دينيّة أو قوميّة، الذي يشاركنا الانتماء إلى حرمٍ كالوطن، شبكة علاقات ثريّة، مفروضة بحرف الواقع، سواء في بعده الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أي الشراكة في واقع إنساني، العصب فيه هو الكينونة.

هنا تستعير ملاحظة أدونيس أبعاداً تنويرية، لأنها تعرّي واقعنا الذي تسطو فيه العقليّة الأيديولوجية على الحقيقة، لتجرّد هذا الواقع من الموقف النقدي في العلاقة مع الوجود؛ لأن ما معنى أن يتجاهل النموذج الإنتلجنسي اللبناني واقع زميله الروحي، المتمثّل في تجاهل كتاب، هو للأخير هوية وجودية، في حين يشاركه لا واقع الانتماء إلى الوطن الواحد وحسب، ولكن واقع الزمالة الطبيعية أيضاً، ثم واقع العلاقة على المستوى الشخصي ثالثاً؟

وهو موقف يترجم استخفافاً بالقيم الأخلاقية أيضاً، لم يكن ليعبّر عنه سوى الإحساس المخجل بالأمان من أية ردّة فعل، بسبب تلك الحصانة التي يكلفها الانتماء إلى أغلبية لها الحقّ في أن تتجاهل، بل وتجهل، بوصفها في الوطن أغلبية!

موقف يتحوّل مع الزمن مسلكاً، والمسلك، مع مرور الوقت، ينقلب طبيعةً. وهنا تبدأ رحلة الاغتراب. اغتراب النموذج المنتمي للأقليّة بالطبع، المسالم بسبب هذه الهوية، المحكوم عليه بعزلة اللاجئ، الذي يرتضي أن يضحّي بحقوق المواطنة، مقابل عدم المساس بالحدّ الأدنى في وجوده، المتمثّل في حرية ممارسة تلك الوصايا، المفروضة بناموس كتابه الذي ورثه عن أسلافه، ليتحوّل التجاهل، أو الجهل، في موقف صاحب الأغلبيّة، استصداراً ضمنيّاً لحكم المنفى في حقّ صاحب الأقليّة، لأن الموقف من الكتاب ليس سوى موقف من صاحب الكتاب، الذي سيقبل بلعب دور الضحيّة منذ الآن، إذا شاء أن ينال فرصة الاختلاء بربّه، لقراءة وصاياه في كتابه، مكتفياً بنفسه، منكبّاً على همّه، كما يليق بكل مغترب يبحث في عزلته عن ملاذ يعزّيه في محنته.

فليس المواطن العربي البريء هو مَن استصدر قصاص المنفى في حقّ هذا الإنسان المسيحي، أو الكردي، أو الأمازيغي، في واقع وطن مثقل الذاكرة بتنوّع الثقافات، متعدّد الملل منذ الأزل، ولكن صاحب الحكم هو هذه الفئة التي تنتحل لنفسها منزلة الصفوة انتحالاً، وتتشدّق بالانتماء إلى حقل الثقافة من باب الترف، في حين تعتنق ورماً خبيثاً اسمه الأيديولوجيا بنسبة مئوية ساحقة، ليميت فيها هذا الورم لا الحبّ وحسب، ولكن أدنى درجات التسامح في حقّ هذا الآخر، إلى الحدّ الذي نستطيع أن نجزم فيه بأن محنة هذا الآخر هي من صنيع هذه الفئة المنتمية إلى هذه الملّة التي تتنكّر بقناع نبيل كالثقافة، ولكن عنصر الأيديولوجيا، الذي تعتنقه في مسلكها ديناً، يجرّدها من سلطة الثقافة، ليستبدلها بثقافة السلطة. لأن رسالة الأيديولوجيا تغريب الحقيقة، بنيّة احتكار الحقيقة، لتحقيق غاية مبيّتة تنتهي بامتلاك السلطة. وكل صنوف الإحباط التي عاشها الواقع العربي، في بُعده الكينونة، هو نتاج هيمنة العقل الأيديولوجي طوال قرن من الزمن: العقل الأيديولوجي في أبعاده التقليدية الثلاثة: القومي والديني والأممي. فهل اختفى الثالوث بإجهاض مشروع النهضة الذي تغنّت به الإنتلجنسيا العربية طوال قرن من الزمن؟

كلّا، بالطبع. فالهوس الأيديولوجي أبَى إلّا أن ينال في الإنسان العربي البريء براءته. أبَى إلّا أن ينال فطرته. أبَى إلّا أن ينال في هذا الإنسان شعرة شمشون التي كانت في تجربته الكلاسيكية رأسمال، كما هو الحال مع العقلية البريّة، لأن كلمة: برّي، بوصفها هويّة هذا الإنسان الوجودية، التي حقّ له أن يفاخر بها الأمم، ويلوّح بها في الوجوه، هي شهادة براءة!
وهي الشهادة التي عملت جنيّة الأيديولوجيا كل ما بوسعها كي تختلسها منه، كي تتمكّن من تغريبة عن واقعه الأخلاقي الكلاسيكي عندما كان هذا الإنسان يقرئ الضيف حتّى وهو في عداد الأموات (كما فعل حاتم الطائي)، ويرتدي مَن استجار به حتّى لو كلّفه هذا الفداء حياته ثمناً، انتصاراً للقيم الإنسانية البريّة، المشرعة الأبواب على الآخر، بقطع النظر عن جنسه أو لونه أو لغته أو دينه، لتأتي الأيديولوجيا لتسرق منه هذه الذخيرة، لتفرض فيه قيماً أخرى دخيلة عن حقيقته، علّ الانتصار للعنصر أبشعها.