في سياق تفنيده لدعوات الحوار التي اعتاد إطلاقها ساسة الإطار التنسيقي لحل الأزمة السياسية الحالية في البلد، ذكر الصدر أنه لا جدوى من الحوار، قائلاً على نحو صحيح ودقيق "لا تذعنوا لإشاعاتهم بأنني لا أريد الحوار، لكن الحوار معهم قد جربناه وخبرناه وما أفاء علينا وعلى الوطن إلا الخراب والفساد والتبعية"، وبالتالي فإنه "لا فائدة ترتجى من ذلك الحوار" بحسب كلمات الصدر.

"الحوار" هو أحد أكثر المصطلحات استخداماً في الحياة السياسية في العراق، منذ 2003، والأكثر تعرضاً للانتهاك في معناه وجدواه. يسمعه الفرد العراقي العادي كثيراً جداً: في حديث السياسيين وبيانات الأحزاب وإعلانات المسؤولين والمؤسسات، كما يرد على نحو مستمر وكثيف في آراء المحللين والمعلقين والصحافيين، في إطار اقتراحاتهم حلولاً للمشاكل والأزمات المستمرة تصاعدياً منذ 2003. يجتمع كل هؤلاء حول افتراض مشترك مغلوط خلاصته أن الحوار يقود إلى الحل. واقع الحال هو أن الحوار أمر سلبي في العراق، إذ هو غالباً ما يشير إلى التفاهم بين القلة السياسية والحزبية المهيمنة، من أجل عقد الصفقات التي تستفيد منها هذه القلة وتُلحق الضرر بالصالح العام على حساب مصالح الأكثرية الشعبية التي تعاني من نتائج هذه الصفقات. تظهر هذه النتائج وتُحسها هذه الأغلبية في نقص الخدمات وتدهور البنية التحتية وشحة الفرص الاقتصادية وازدياد الفقر وتصاعد الغضب. يُترجم كل هذا بامتهان مستمر لكرامة العراقيين العاديين الذين يعانون الأزمات وانواع الشحة المختلفة التي لم تحلها حوارات الساسة والأحزاب المتواصلة، بلا انقطاع منذ 19 عاماً.

في عالم السياسة والعلاقات الدولية عادة ما يرتبط الحوار بحل الخلافات عبر التقاء المختلفين والمتصارعين حول طاولة واحدة للاستماع لمخاوف وتحفظات كل طرف إزاء الطرف الآخر كخطوة أساسية ومهمة لتجاوز هذه الخلافات وصناعة فهم عام مشترك يمهد السبيل لحل الخلافات. في تعريفه المعجمي في إطار السياسة، يأتي الحوارُ قبل التفاوضُ للتوصل إلى اتفاق رسمي لحل مشكلة ما. الحوار أدنى درجة في السلم الدبلوماسي والقانوني من التفاوض الذي يكتسب طابعاً رسمياً. لا يسبق الحوارُ كل تفاوض، بل في العادة يُلجأ إليه قبل الدخول في المفاوضات في حالة القضايا المعقدة التي يصعبُ حلها عبر الذهاب إلى التفاوض مباشرةً، وتحتاج إلى تفكيك متأن أولاً. مثال على ذلك هو الحوار السعودي-الإيراني الذي يجري في بغداد والمتواصل منذ أكثر من عام، الذي قد يؤدي أو لا يؤدي إلى تفاوض رسمي، (يعتمد الأمر في الغالب على نتائج الحوار). يكفي أحياناً إجراءُ حوار ناجح لاتخاذ قرارات رسمية تحل المشكلة من دون الحاجة لتفاوض رسمي، فهذا التفاوض كثيراً ما يرتبط بالحاجة إلى توقيع اتفاق رسمي. في حالات كثيرة، عندما لا يتطلب حلُ المشكلة عقدَ اتفاق رسمي، يُكتفى بالحوار لتبني سياسة معينة أو التراجع عنها. حدث هذا كثيراً في إطار جامعة الدول العربية التي كانت تتوسط لحل الخلافات الكثيرة بين دولها الأعضاء عبر حوارات تجريها بينهم تزيل الشكوك أو حالات سوء الفهم.

تَمَثل جزءٌ من الفرح العراقي العام في 2003 بالتخلص من نظام صدام حسين بإمكانية تعبير الناس عن آرائهم في قضايا السياسة، وقدرتهم على التحاور بخصوص خلافاتهم حولها في الحيز العام. في العهد الشمولي البعثي السابق، كانت الدولة تأمر والمواطنون ينفذون، فلا حوار بين الاثنين بخصوص صناعة القرار وعواقبه. كان على المجتمع أن يتحمل بصمت وطاعة التبعات الكارثية للقرارات الخاطئة التي اتخذتها السلطة من دون تشاور معه. انتهى انعزال السلطة عن المجتمع وتحكمها به مع مجيء نظام جديد بعد 2003 يقوم على تداول السلطة انتخابياً ويسمح بمساحة واسعة من حرية التعبير والاختلاف في البداية، قبل أن تبدأ هذه المساحة بالتقلص تدريجياً لتتراجع معها حوارات السلطة مع المجتمع كخصيصة أساسية لأي نظام ديمقراطي تمنع هذا الأخير من الانزلاق نحو دروب الانعزال والفشل وصولاً إلى فقدان الشرعية الشعبية والأخلاقية.

ساهمت عوامل كثيرة في أن يمضي النظام السياسي العراقي ما بعد 2003 نحو دروب الانزلاق هذه، معظمها تتعلق بالطبقة السياسية والحزبية الحاكمة. كان التمثيل الهوياتي الاوتوماتيكي الذي حصلت عليه أحزاب هذه السلطة في الدورات الانتخابية، في ظل نظام توافقي-محاصصاتي، أحد أهم الأسباب. قادتها هذه الثقة بالتجديد الانتخابي الذي شعرته هذه الأحزاب باسم حماية الجماعة التي تمثلها، إلى إهمال الإنجاز المادي والملموس لصالح جمهورها لتحسين أوضاعه. ومع الدخول في دروب الفساد، الذي شرعنته المحاصصة، وضعف الضوابط المؤسساتية الرادعة، تحولت هذه الأحزاب من حركات سياسية يُفترض أن تمثل مطامح المجتمع، إلى مجاميع اقطاعية همها التغول على موارد الدولة ومؤسساتها والهيمنة على سلطة القرار فيها. في سياق كل هذا، كانت هذه الأحزاب تخوض تنافساً دائماً وشرساً مع شبيهاتها من الأحزاب الأخرى على هذه الموارد. لتنظيم هذا التنافس الصعب، كان المتنافسون الحزبيون بحاجة دائمة إلى "الحوار" بينهم لحسم الحصص، واعادة توزيع النفوذ وسلطة القرار بينهم، بضمنها نتائج الانتخابات وتفسيرها.

ليس العيب في الحوار ذاته كأسلوب للتواصل مع الآخر وفهمه ومحاولة استيعابه، فالعراقيون كمجتمع يحتاجون إلى الكثير من الحوارات بينهم لفهم أنفسهم ومخاوفهم وتشكيل مشتركاتهم. العيب، كل العيب، في نوعية الحوار الذي تجريه أحزاب السلطة بينها، فالحوار الذي يطالب به كثيرون في العراق وينخدعون به، باستثناء أحزاب السلطة التي تفهم معناه جيداً، هو حوار يتعلق بالمصالح الأنانية للأحزاب، وليس بمصالح المجتمع العامة. لذلك لم تنتج عن حوارات أحزاب السلطة أي فائدة حقيقية وملموسة للمجتمع، منذ هيمنتها على السلطة في 2005. في ظل هذا الفهم الإقطاعي والانتهازي للحوار في العراق، تتعايش المتناقضات بسهولة، فدعاة الحوار هم أنفسهم دعاة الصراع وساسة التهديد وحماة القتلة. لذلك ليس غريباً أن تطلق الأذرع المسلحة التابعة للأحزاب السياسية الحاكمة والمتواطئة معها، الصواريخَ على خصومها الحزبيين والسياسيين، وتشيطنهم وترسل المسيرات نحوهم وتفجر القنابل وتهدد برفع السلاح، ثم تعود لتؤكد في اليوم التالي على أهمية "الحوار لحل الخلافات" و"تأكيد المشتركات"!!! فقط في ظل مثل هذا التشويه البنيوي العميق في معنى السياسة بوصفها رعاية الدولة لمصالح المجتمع، يمكن أن تبرز سلوكيات انفصامية كهذه تتأرجح، بسلاسة مخيفة، بين العنف وتمجيده في سياق، والدعوة إلى الحوار والتفاهم في سياق آخر!

في التسريبات الصوتية لحديث المالكي مع زواره، الذين كانوا يتحدثون عن أهمية سفك دم جديد، كان المالكي يرد، بالضد من القانون والدستور وأي قيم وطنية وإنسانية، باستعداده لشن الحرب بميليشيات جديدة على خصومه السنة "الطائفيين"، والأكراد "المتصهينين"، وصولاً إلى الهجوم على النجف لهزيمة التيار الصدري، الذين اعتبرهم "جبناء." بعد ساعات قليلة من بث الصدر خطابه بخصوص عدم جدوى الحوار مع أحزاب الإطار التنسيقي وإصراره على أن احتجاج المجتمع ضدها هو السبيل الوحيد المتيسر للإصلاح، نشر المالكي تغريدة، تؤكد الانفصام ذاته، عن الحوار مؤكداً على أهمية "الحوارات الجادة التي نأمل منها حسم الخلافات وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح"!!!