فالمسئولية الأخلاقية لصاحب الحكم (الملك) هي رهينة القيم الأخلاقية، المترجمة في مسلك النموذج، في مسلك الصقر الذي يمتلك القوّة، قوة السيطرة على الواقع، الواقع بين السماء والأرض، فلا يبيح لنفسه الردّ على إساءات السفهاء، أمثال الغربان، التي شاهدتُ، من موقعي في غولديفيل، كيف تتحالف هذه الأشباح ما أن يقع بصرها على صقر، يدوّم عالياً فوق البحيرة، لتشنّ في حقّه هجوماً جماعيّاً ساحقاً، ولكنه لا يستجيب للتحدّي أبداً.

فهو يواصل تحليقه باستعلاء يليق بصاحب المُلْك، ويحتال بدهاء كي يجتنب مناقر الغربان البشعة، بنعيقها المنكر، معبّرةً عن حقدها لهذا الضيف، السابح في الفضاء، بمواهب الطيف، متجاهلاً استفزاز السفهاء، فلا يتنازل لمنزلتهم، في تحاشيه لعدوانهم، مستخدماً مهارة فائقة في إبطال مفعول الهجوم، لأن الدخول مع الرعاع (الرعية) في نزاع هو ما لا يليق بملل الأخيار، الذين اصطفتهم الأقدار كي يتولّوا أمر المستضعفين.

فرحمة المستضعف رأس الحكمة المَلَكية، والصبر على الأنذال أحد أعمدة بنودها، والعفاف في العلاقة مع حطام الأسافل، رأسمالها. فليس من شيم حامي الحمى أن ينهب، أو يطمع، أو يقمع، لأن المثال (الصقر) لا يتنازل فيصطاد العصافير، أو ينحطّ فيستطعم الجيف، أو يعير اهتماماً لمكائد خشارة السفهاء، لأنهم، في المعادلة، مجرد غربان! فدين «هوروس»، حامي الحمى، ليس ناموس السماء العصيّ، لأن حضور «أساهو»، أو «أساهغ»، يسكن البعد المفقود، وهو ليس ناموس الأسافل أيضاً، لأن ناموس الأسافل ليس منزّهاً عن الدنس، ولكنه ناموس البرزخ، المعلّق بين هذين القطبين؛ الذي يتوسّط هذين البعدين. وليس لطريد الفردوس الضائع إلّا الإمتثال لدرس هذا الطيف المكابر، فيستوعب وصيّة ميثولوجيا الأمم البريّة، في زمن حداثة عهدها بالأزل، أو ما راق الشاعر أن يسمّيه الأرومة، المرادف بحكم المنطق للإصطلاح الإغريقي einai، الدالّ على الكينونة في بُعد المهد، والمعزّزة بالمفهوم المعتمد في منطق لغة البدء كاستحداث، لواقعٍ كان، قبل المعجزة، معدوماً.

ولكن رحلة الذخيرة، الخبيئة في أعطاف هور، لا تتوقّف عند هذه التخوم، ولكنها تأبى إلّا أن تغتنم المزيد، سواء في البُعد الطبيعي البيئي، أي الحرفيّ، سواء في البعد المفهومي، أي المجرّد.

فمن هذا المستودع السخيّ استعارت اللغة البدئية إسم «آهر»، الدالّ على المخلوق الأقوى على الإطلاق في واقع الإنسان البرّي وهو الأسد، ترجمةً لقدرته على اعتناق دين الحماية أيضاً.

فهو جدير بهذا اللقب من منطق الإنابة عن سيّد الفضاء الأعلى، الصقر، لانعدام وجود منافس له في الواقع الأرضي في القدرة على تحقيق الحماية، سيّما في هويّة الأنثى، التي ترد في اللغة في صيغة التأنيث «تاهرت»، بإضافة تائيّ الإناثة المعتمدة كقاعدة في الليبية القديمة، في حين دأبت المصرية على إسقاط التاء الأولى، مع الإحتفاظ بالثانية.

من تاهرت استعارت البوّابة، في صيغة التأنيث أيضاً، إسمها في «تاهورت». وكم كان سيسعد ذلك العرّاب المعتزل، المهووس باللغات، المستجير بتلابيب الطبيعة في «شفارتزفالد»، المكتفي بنفسه، المستغرق لاستجلاء خفايا غيوبه، كما الحال مع فيلسوف القرن مارتن هايدغر ، فيما لو أوتي من علم اللغة البدئية قليلاً، كما أوتي من علم اليونانية القديمة كثيراً، لتكون له عوناً في استنطاق «هوروس»، على نحوٍ يفوق ما استنتجه من المصطلح، وهو يطارد بصماته في اللغات الأوروبية بداية من Tür الألمانية، مروراً بـ door الإنجليزية، ووصوْلاً إلى dhor السنسكريتية، كناية عن الباب: هذا الذي يكفّ، في المدلول، عن ماهيّته الحرفيّة الشائعة كمجرّد باب، ولكنه يستعير هوية وجودية أبعد منالاً، وإلّا لما انتدبه دهاة اللغة الألمانية ليعبّروا به عن منزلة هيهات أن يحتمل وزرها المدلول المتواضع، المتداول في أدبيّاتنا اليومية، التي تعامل «هور» كمجرّد ستار منيع، يحجبنا عن العالم، ليتيح لنا فرصة الإختلاء بأنفسنا. هذه المنزلة هي: Herr، الدالّة على السيادة، المستعارة من Hor كحماية:

الحماية لا في معناها الحرفيّ، الواقعي، الذي نبتذله بسوء الإستعمال، متجاهلين مضمونه الأعمق. فالحماية، ليست مجرد استنفار لحراسة، ليست مجرد وقاية من خطر متوقّع، ولكنها، في المقام الأول، حرصٌ. حرص على سلامة كائن. أي عمل ما بالوسع للدفاع عن واقعٍ نحن مسئولون عن سلامته، عن حضوره، عن وجوده، بحكم عملنا، بما يكفل له البقاء قيد واقعنا، ليشاركنا وجوداً في واقعنا. وهو ما يعني أن الحرص على استنزال السِّلْم في واقع هذا الكائن، هذا المبدأ الآخر، كي يطمئن إلينا، ويتفضّل مشكوراً، ليشاركنا مائدة وجودنا، هو في أعناقنا رسالة تهب حضورنا في العالم دلالة. تهب وجودنا المعنى! والمعني دوماً تحقيق لحلم. المعنى دوماً امتلاء. الإمتلاء الناتج هن الإحساس المقدّس بأداء ما ظلّ في حياتنا دوماً قدس أقداس، وهو: أداء الواجب.

أداء الواجب دوماً قدس أقداس، لأنه الضمان الوحيد لنيل العنقاء، لنيل: السعادة!

فهل يستطيع الإنسان أن يدّعي انتحال لقب جليل كالـ Herr (السيد)، دون أن يعبّر لنا عملياً عن استعداده لأداء دور الحامي، هوروس، أي دور الإستعداد للفداء، يتولّى رود الحامي، كما سخّر هرقل (حامي حِمَى الوطن) حياته، لحماية أوطان اليونان؟ وما هو مفهوم السيادة (Herr )، في العقليّة الجرمانيّة، إن لم يكن الإلتزام المبدئيّ، الأخلاقيّ، بتنكّب وزر الوصاية على أناسٍ هم أمانة في عنق السيّد حتّى لو لم يكن راعياً بالحرف، وهم رعيّة بالنتيجة؛ وصاية لا تكتفي باستعارة فحوى الحماية، ولكنها تتجاوز هذا البُعد لتتحوّل ضرباً من وقاية؟

هل قلنا الوقاية؟
بلى! السيادة، بمستوياتها، سواء في بعد المُلْك، أو في بُعْد البوّابة التي تقف حاجزاً بين ربّ البيت، وبين شرور الخارج التي تتربّص بربّ البيت، كلّها في النهاية حماية، أو وصاية، غايتها، في نهاية المطاف، الوقاية. الوقاية من صروف الدهر، ومن عدوان الأشرار، ومن كوارث الطبيعة، ومن وساوس النفس الأمّارة بالسوء. أي أنها وثيقة عهد، نافذة المفعول، بيد القوّة المخوّلة بتولّي شأن الرعاية في مستواها الكينوني، لأنها جنس من ولاية: ولاية رهينة شروط ليس أبسطها العمل بموجب الصفقة المترجمة في حرف الوصية القديمة: «كل مالكٍ مملوك»، ليتنزّل في حقّ الوصيّة التعديل المستحقّ الذي يقول: «كلّ مملوكٍ مالكٌ».

بلى! فلغة التكوين تريد أن تنبّهنا إلى القبول بوجوب الإعتراف بالجدل، في المعادلة، بحيث نقرّ بتبادل الأدوار في حال تعلّق الأمر بمسألة مثيرة للفضول مثل مبدأ الـ هوروس، في أبعاده السخيّة، الذي استودعه دهاة الزمن الضائع أحجية مزدوجة في حرفها، ولكنها تؤكّد على وحدة المفهوم، عندما تعمّدت تنصيب هذين الرمزين (الصقر والأسد) بوصف أوّلهما المجاز الثريّ في الهيمنة على فضاء هو سماء، وتخويل ثانيهما مسئولية تولّي كل ما دبّ على واقع أرضيّ، ليكتمل محيط الدائرة الوجودية بالرؤيا الميثولوجية، التي لم تلبث أن تتلقّفها الروح الإنسانية، الظامئة بطبيعتها للإلهام الأسطوري، فلا تقبل شعاراً لمبدأ المُلك سوى أحد هذين المثالين (الصقر والأسد)، ليكونا بمثابة تميمة ترفرف رايةً في أعالي الأبنية، أو تجسيداً في الوثائق، أو بصمة في الأختام، تيمّناً بالقيمة السحرية، المخفيّة في الوقاية، التي يبشّر بها هذان القطبان، في واقع أرضيّ، دنيويّ، ما يعزّي فيه أنه شعريّ، يروقه أن يتغنّى بفردوس مفقود، مستعارٍ من وصايا زمنٍ مفقود، يقيناً منه بأن ما لا يؤسطر، هو ما لا يُعوّل عليه.