"الوجود ألم، والموت عدم" (إمبيدوقليس)

يخجلني أصدقائي بتهانيهم لي بمناسبة عيد ميلادي، فلا أجد ما أجيبهم به على حسن ظنّهم بشخصي سوى سيرة "سيلين"، الذي تقول الأسطورة الإغريقية أنه عاش العمر كلّه وهو يطارد ذلك المخلوق الملفّق من جسد حيوانٍ ورأس إنسان، المدعو في الميثولوجيا "قنطروساً"، كي يستجديه جواباً على سؤال خالد: "لماذا يولد الإنسان؟"، ليفلح في أحد الأيام بأن يظفر به، لينال منه الجواب العدميّ القائل: "ما أشقاك أيها الإنسان، لأنك لا تدري أن الأفضل حقّاً ألّا تولد، وإن وُلدتَ، فالأفضل لك أن تفعل كل ما بالوسع كي تتحرر من وجودك بأسرع وقتٍ ممكن!". فما موقف مريد حقيقة مثل سيلين، من جوابٍ كهذا؟ ألا تلخّص لنا الأسطورة درساً في حقّ كل منّا، عندما يدمن الاحتفاء بيوم الميلاد، بدل أن يرتدي مسوح الحداد، لكي يحتفي بيوم الممات؟ ألم يحرّض حكيم الجامعة في سفره، الذي لا يقلّ عدميّةً، عن منطق القنطروس، قائلاً: "الذهاب إلى بيت النوح خيرٌ من الذهاب إلى بيت الفرح، لأن يوم الممات أفضل من يوم الميلاد".

وهو ما قد يعني أن ارتداء مسوح البُلس، أي سواد الحداد، هي الأنسب للاحتفاء بيوم الميلاد، ولبوس البياض هي ما يليق بمناسبة جليلة كالخروج من خشبة المسرح؟ ألم يكن حدس الأمم أقوى حُجّة، عندما دفعها لاستنزال البياض صيغة في الكفن، كأنها تستوحي نبوءتها من حكمة البيت الوحيد الذي أُنقذ من مسرحية مفقودة لـ"إيريبيدس" يقول: "ما أدرانا أن حياتنا هذه هي الموت، أما ما ندعوه موتاً فهو الحياة؟"

فالرهان الذي يستطيع أن يدفعنا لقبول المغامرة إنّما هو: المعنى. فقيمة حياتنا إنّما هي رهينة المعنى، الذي ننتدبه ترياقاً كي يعزّينا في محنة خوض التجربة، فلا نملك إلّا أن نستنكر، مع عقلية عدميّة أخرى هي المعرّي، الذي يجاهر: "عجبي من راغبٍ في مزيد!"

فالشرك إنّما يكمن في الاغواء، الذي يجعلنا نهفو للاستزادة من هذا النصيب المغتنم، برغم موقفنا المبدئي من عدم جدوى حضورنا في وجودٍ هو، في الواقع، قضبان حبوس؛ فكيف لا يدهشنا موقف عرّاب العقل البشري "عمانويل كانط"، عندما يقول بصراحة أن رأسمال الإنسان الذي عمّر طويلاً ليس في حكمة خلعتها عليه تجربة طول العمر، ولكن في الكيفية التي استطاع بها هذا الداهية أن يحتال على الزمن، فيختلس منه هذا القدر من منحة خرافية، مستقطعة من ذخيرة بعبعٍ، هو الخلود؟

وهو منطق يسفّه ظمأنا الأبديّ في الاستزادة من الهبة الغيبيّة، التي نسمّيها ميلاداً، أو عمراً، طالما أن ما يخذلنا فيها هو هذا القطب، المدعو في لغتنا عقلاً، تماماً كما خذل العقل عرّاب العقل "كانط"، الذي أُصيب بالخرف عندما بلغ من العمر عتيّاً، فلم تشفع له عبقريّته في اكتشاف عمل هذا القطب، سواء في طينته النقيّة، سواء في معدنه العملي.

ففي خمسينيات القرن الغابر، عندما استوى الوطن في هويّة دولة، واحتجنا لوثائق لدخول المدارس، واجهتنا، نحن معشر الأطياف المهاجرة في أعظم صحاري العالم، مشكلة تحديد تاريخ الحضور في هذا الشَّرَك، فما كان منّا إلّا الاستجارة بمحفل أمّهات، لم يكنَّ مجرّد أمّهات في الواقع، ولكنّهنّ كنّ سادنات كل ما متّ بصلة لشئون معبدٍ هو الصحراء. ولا أنسى كيف اجتمع هذا المحفل بزعامة الأمّ، كي يستخرج لشخصي شهادة بتاريخ الميلاد، نزولاً عند رغبة جناب الأساتذة، المنتدبين من الحاضرة، لتلقيننا درس الوجود في مدرسة الواحة، الضائعة في الصحراء.

وعلّ أكثر ما يستثير الفضول في جلسة المحفل هو الدّهاء، المستخدم من قبل كاهنات الجيل، للإيقاع بالزمن الماكر، في فخاخ الأحداث، أو ما نسمّيه تاريخاً. وهي حيلة تستدعي ذاكرة أسطورية، كان عليها أن تقوم باستنطاق مسيرة ما يزيد على العشرة أعوام، لاستحضار الزمن الضائع، بعونٍ من وقائع، هي علامات فارقة، تصلح برهاناً على وجودٍ مترجم في حرف تاريخ.

وكان على المحفل أن يخوض جدلاً حامياً استغرق يوماً كاملاً كي يتوصّل بعام الميلاد، وهو 1948 المعروف بعام "الزّمّة" كما شاع في الألسن. وهي كلمة تعني "الأزمة"، لأن أحداثاً جسيمة، كارثية، شهدها عام ميلادي المشهود، أهمّها بلوغ الجدب في الوطن عامه السابع، ممّا ألحق بالأمّة المجاعات، ثمّ كان العام الذي خلا من وجود الدولة في الوطن، بعد انسحاب إيطاليا المهزومة من الحرب العالمية، ثم تزامن عنصر ثالث، مع هذه النكبات، هو نكبة فلسطين.

فيكفي آنذاك أن يقال "عام الزمّة" ليكون ذلك شهادة على كربٍ فجيع. وحظّي هو الذي أوقعني في هذا الجبّ، عملاً بوصايا الدهاة التي تقول إن قيمة الانسان إنما تقاس بمدى شقاء طفولته. ولكن على شخصي أن ينتظر طويلاً ويتألّم كثيراً، قبل أن يكتشف سرّ البشارة، الكامنة في هذه العبارة. فنحن لا نولد لكي نحظى بالسعادة، ولكننا نولد كي نؤدّي الواجب، كما يعلّم "كانط"، وأداء الواجب بالطبع عملٌ رهين الألم.

فكل أمتناني لأصدقائي، لأنهم لم ينسوا أن يهنئوني بآلامي!

أوَ ليس باطلاً، بل ألماً، أن نحيا في عالمٍ يدمن الأكذوبة، الحقيقة فيه هي عنقاء مغرب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) بعد بضع ساعات من تحرير المؤلف لهذا النصّ، خرج في جولة مسائية، ليتعرّض لحادث سير، أُصيب على إثره بكسور خطيرة، ليجد نفسه في مستشفى تاراغونا، حيث خضع لتدخّل جراحي جدّي. فيا لها من نبوءة، كما يليق بكل مريد حقيقة