يستخدم التيار الاحتجاج الشعبي لهزيمة خصمه، وخصم تشرين ايضاً، الإطار التنسيقي الذي يعتمد على هيمنته على البرلمان وما يتيح له هذا من احتمالات تشكيل حكومة إطارية يرفضها التيار الصدري. يسعى التيار لإجبار الإطار على القبول بحل البرلمان والذهاب الى انتخابات مبكرة أخرى بالشروط ذاتها التي جرت فيها انتخابات أكتوبر 2021: على أساس ذات القانون الانتخابي ومفوضية الانتخابات. يرفض الإطار هذا السيناريو لأنه على الأكثر سيؤدي الى خسارة انتخابية له أشد فداحة من خسارته في الانتخابات السابقة، ويسعى الى تشكيل حكومة يقودها هو تسمح له، بالتوازي مع هيمنته في البرلمان، بإعادة صياغة القانون وتشكيل المفوضية وصولاً إلى انتخابات مبكرة، إذا أُضطر إليها، يعتقد أن حظوظه فيها ستكون أفضل من الانتخابات السابقة.

في سياقها المباشر، تبدو المواجهة الحالية بين التيار والإطار تنافساً تقليدياً بين فريقين سياسيين على النفوذ للهيمنة على الدولة عبر السيطرة على الحكومة المقبلة وضمان تحقيق فوز في انتخابات جديدة لن تتأخر طويلاً. على أساس هذا الفهم التقليدي، يمكن لتشرين أن تبقى متفرجةً على هذا التنافس وتكتفي بالنقد في إطار "الشماتة المريحة" بنظام سياسي تعتبره فاسداً ومجرماً وهي تراه يتآكل من الداخل بسبب صراعاته الكثيرة، ويمضي سريعاً نحو انهيار يراه بعض التشرينيين محتوماً من دون تقديم خارطة طريق تشرح كيفية تحقق هذه الحتمية الواثقة. لكن هذا الفهم التقليدي للصراع الحالي بين التيار والإطار طُهراني وتبسيطي لأنه يفسر الأشياء على نحو ميكانيكي أقرب منه للسذاجة السياسية التي تليق بالأيديولوجيين الحالمين وليس الاحتجاجيين المطالبين بالإصلاح ويحتاجون الدخول في تفاصيل صناعة هذا الإصلاح. لا تحدث الأشياء المهمة من تلقاء نفسها، وإنما عبر فعل فاعلين واعين يفكرون ويخططون ويجتهدون كي تتحول الخطط إلى وقائع.

التأطير الصحيح للصراع الحالي مهم من أجل قرارات تشرينية صائبة بخصوص كيفية التعاطي معه.

حقيقة هذا الصراع هو أنه أحد نتائج الاحتجاج التشريني في 2019 الذي مَثَّل هزة عميقة للطبقة السياسية الحاكمة اضطرها لتقديم "تنازلات" للمجتمع بينها انتخابات مبكرة بقانون انتخابي جديد يفرض تنافساً انتخابياً حقيقياً بنتائج واضحة لا يمكن الالتفاف عليها او إعادة ترتيبها كما كان يحصل عبر صيغة سانت ليغو الجائرة التي كانت معدة لإعادة ترتيب المقاعد البرلمانية لصالح الأحزاب الكبيرة المتمترسة في السلطة. لم يدرك كثير من التشرينيين وقتها أهمية قانون الانتخابات الذي أنجزوه بتضحياتهم إلى أن جُرب القانون في انتخابات أكتوبر/تشرين العام الفائت، إذ ساهم هذا القانون المهم، على العيوب التي فيه، في هزيمة القوى الحزبية المتنفذة من دون قدرتها على تغيير نتائج الانتخابات تالياً، أساساً بسبب أداء مفوضية الانتخابات والدعم الدولي والحكومي الذي تلقته.

كانت هذه النتائج وصمودها درساً مهماً خلاصته أن بالإمكان إزالة الأحزاب الإقطاعية الفاسدة عن سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع. ثم كانت اطروحة الاغلبية السياسية التي تبناها التيار الصدري خطوة أخرى بالاتجاه الصحيح لتفكيك التوافقية والمحاصصاتية التي تعتاش عليها هذه الأحزاب، لكن ابتداع الثلث المعطل عبر تخريجه قضائية مخالفة للدستور كان خط الدفاع الأخير الذي أفشل حكومة الأغلبية وأبقى الأحزاب الشيعية الإقطاعية في سدة السلطة ومنح حياةً جديدة لمنظومة 2005 الحزبية. ثم تحقق للإطار التنسيقي نصرٌ إضافي، ومجاني هذه المرة، عبر استقالة النواب الصدريين من البرلمان، ليصبح هو القوة الأولى فيه. من هناك، سعى الإطار إلى تشكيل حكومة آخرى على المنوال المعتاد والفاشل كي يعيد للصدارة الحرس الشيعي القديم الذي أطاحت به الانتخابات.

عملياً، تنتمي خطوات الإطار التنسيقي منذ حصوله على الثلث المعطل وصولاً إلى إصراره على تشكيله حكومة "الخدمة الوطنية" وإجراء انتخابات بشروطه لإعادة إنتاج نظام 2005، إلى ما يمكن تسميته بالثورة المضادة. يشير هذا المصطلح الذي ظهر مع الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر إلى سعي المنظومة القديمة، النظام الملكي الفرنسي الاستبدادي الذي أطاحت به ثورة 1789، للعودة إلى السلطة وإلغاء نجاحات الثورة التي حولت الفرنسيين العاديين من اتباع طائعين للنبلاء ورجال الدين والملك في إطار هرمية استبدادية راسخة وصارمة إلى مواطنين متساويين بحقوق أصيلة غير قابلة للمصادرة. استمرَ الصراعُ الشرس بين الملكيين والثوريين الفرنسيين سنوات قاسية ودموية إلى أن حُسم تدريجياً لصالح الثوريين الذين كان عليهم أن يُمؤسسوا الثورة عبر الدولة ويتوقفوا عن التوسع العسكري في أوروبا المُستَنفَرة ضدهم وعن نشر القيم الجديدة التحررية المُقلقة المناهضة للنظم القديمة الملكية الاستبدادية.

واقعياً مَثَّلَت تشرين البدايات الواعدة لثورة سياسية إصلاحية سلمية على أساس التغيير التدريجي لمنظومة الحكم، وليس الثورة بمعناها الاصطلاحي المعتاد، على الطراز الفرنسي، حيث الإطاحة السريعة بالحكم واستبداله بآخر وبقيم سياسية واجتماعية جديدة حتى مع مطالبة بعض التشرينيين بمثل هذه الإطاحة على نحو تختلط فيه الرومانسية الثورية بالغضب الشعبي من دون إنتاج رؤية واقعية قابلة للتحقيق بهذا الصدد. يحاول الإطار اليوم نسخته العراقية من الثورة المضادة عبر إلغاء النجاحات الأولى التي صنعتها تشرين الثائرة، من خلال التراجع عن "التنازلات" التي اضطرت إليها منظومة الحكم، ووفر لها انسحاب الصدريين المفاجئ من البرلمان فرصةً ذهبية لتحقيق ذلك. كانت هذه "الثورة المضادة" على وشك النجاح إلى أن أوقفها الصدريون بتحولهم إلى الاحتجاج في الشارع ودخولهم إلى البرلمان ضمن احتجاج مفتوح لمنع تشكيل حكومة إطارية جديدة.

للصدريين والتشرينيين فهم مختلف لمستقبل العراق ومعناه فالصدرية حركة دينية-سياسية محافظة، عالية التنظيم والانضباط على أساس هرمي تستثمر في القيم التقليدية، فيما "التشرينية" تيار ليبرالي عام، ما يزال بدون ملامح سياسية واضحة، تديره الأفكار المشتركة، وليس الادوات المؤسساتية الحزبية كما هو حال الصدرية، وتهتم بالجديد والحديث. يتردد التشرينيون من المشاركة في الاحتجاج الحالي بقيادة الصدريين بسبب أحاسيسهم بالمرارة من استهداف الصدريين الاحتجاجَ التشريني في 2021 وسعيهم العنيف والتحريضي لتفكيكه. ثم هناك الارتياب بالصدريين لأسباب أخرى يرتبط بعضها بما يعتبره التشرينيون تأريخ الخذلانات الصدرية السابقة حيث الدخول في نشاط احتجاجي كبير ثم الانسحاب منه فجأة، فضلاً عن المخاوف التشرينية من النوايا الصدرية في المستقبل بعد انتهاء التيار من مواجهته الحالية مع الإطار. كل هذه وغيرها تحفظات معقولة ومنطقية تحتاج بعض الزمن والجهود المشتركة من الطرفين لتفكيكها وصناعة إمكانيات الثقة والتعاون بينهما.

لكن ما يجمع الطرفين أكثر مما يفرقهما. فالصدريون، كأفراد أولاً ثم كحركة سياسية تالياً، كانوا مساهمين أساسيين في صناعة الاحتجاج التشريني وإدامته، قبل الوقوف ضده فيما بعد. ثم هناك اشتراكهما في مواجهة الخصم نفسه، الإطار التنسيقي، المسؤول الأول عن سقوط الضحايا التشرينيين وعن مطاردتهم وشيطنتهم المستمرة وعن التدهور العام والفشل الفظيع الذي يعيشه البلد منذ 2005.

يخطئ بعض التشرينيين عندما ينظرون إلى المواجهة الحالية عبر علاقتهم المأزومة بالصدريين، وليس عبر المصلحة العراقية العامة. ثمة وحدة مصالح مرحلية تجمع التشرينيين والصدريين حالياً تقتضي التنسيق بينهما وقد تؤدي الى تشكيل مصالح بعيدة الأمد. لأسباب كثيرة، مبدئية وتكتيكية وإستراتيجية، يحتاج التشرينيون أن يخرجوا باحتجاجهم الخاص بهم، المستقل والمنفصل، لكن أيضاً الموازي للاحتجاج الصدري، وأن يرفعوا المطالب الإصلاحية المتشابهة بلغة تشرينية، وليست صدرية، في إطار استكمال الأهداف التشرينية التي أعلنها احتجاج 2019 ولم يستطع مواصلتها. هذه هي الخطوة التشرينية المناسبة والمنطقية، وليس التفرج على المواجهة وابتداع المزيد من الأسباب لرفض المشاركة في لحظة سياسية مفصلية عراقية تمر فيها الطبقة الحاكمة الفاسدة بأشد لحظات ضعفهاً. هذا وقت المشاركة في صد "الثورة المضادة" وإفشالها وليس الاكتفاء بمتابعتها والتعليق عليها!

يتبع