وخلاصة تلك التحليلات أن مرحلة التوسع الصيني منذ ثمانينيات القرن الماضي التي بدأها دنغ زياو بينغ انتقلت إلى مرحلة التركيز على تطوير القدرات الذاتية دون اعتماد على الشركات الغربية التي تنقل أعمالها إلى الصين.

يعود سبب القلق الغربي ليس فقط لأن الصين أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ولكن لأن الاقتصاد العالمي والأسواق أصبحت عالية الحساسية لأي تطور بسيط في الاقتصاد الصيني بعدما أصبح "قاطرة النمو في الاقتصاد العالمي". وبالتالي فهو قد يكون قاطرة الركود والأزمات أيضا عندما ينكفيء.

المفارقة أن استراتيجية الولايات المتحدة منذ فترة هي "مواجهة الصعود الروسي والصيني"، وتبنتها إدارة الرئيس الأميركي الديموقراطي جو بايدن بقوة ساعية لتكوين "تحالف غربي واسع" حول ذلك الهدف. وهذا هو السند الرئيسي للموقف الأميركي، والغربي، من الحرب في أوكرانيا. وفي هذا السياق، سعى الغرب إلى فرض قيود على الصين والحد من قدرتها على بناء شراكات واسعة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية.

أما سبب القلق الحالي فهو أن الصين بدأت في السنوات الأخيرة "إعادة ضبط" لتطورها الاقتصادي بتعزيز الشركات الحكومية وتقييد النمو الهائل في القطاع الخاص كي لا يفلت من إطار خطط الدولة المركزية بارتباطات قوية مع الأسواق الخارجية. وفي الوقت نفسه، تحاول بكين تقليل الاعتماد على التكنولوجيا والمعرفة المستوردة، أو التي تنقلها الشركات الأجنبية العاملة فيها، وتطور تكنولوجيا ومدخلات انتاج ذاتية خاصة بها.

يتسق هذا النهج مع عملية التحول التي تحدث في اقتصادات دول الخليج والمنطقة العربية، ضمن رؤى استراتيجية متوسطة وبعيدة المدى لتنويع الاقتصاد وبناء القدرات الذاتية. صحيح أن اهتمام الصين بالخليج والشرق الأوسطيتعلق في قدر كبير منه بتأمين مصادر الطاقة التي تغذي نشاطها الاقتصادي، لكن فرص التعاون والشراكة في بناء القدرات الذاتية أيضا لا تقل أهمية.

تعتمد الصين، وهي أكبر مستورد للطاقة في العالم، على منطقة الخليج لتوفير نحو نصف وارداتها من الطاقة (النفط والغاز). وهذا ما يجعل حجم التجارة بينها وبين المنطقة يقترب من ثلث تريليون دولار. لكن الصينيين يريدون توسيع مجالات التعاون بعيدا عن قطاع الطاقة وتبادل السع لتشمل اشتثمارات مباشرة وشراكة في قطاعات من البناء والتشييد إلى التكنولوجيا الحديثة وحتى الصناعات الدفاعية الوطنية.

بالطبع تسعى الصين وراء مصالحها، لكنها تجد في تعزيز التعاون مع دول المنطقة مصلحة مشتركة. رما يتصور البعض في الغرب أن هذا التوجه الصيني هو بمثابة "دوس على اصبعهم في المنطقة"، لكن ذلك غير صحيح. ويدرك العقلاء في أميركا والغرب أن المنطقة لا تستبدل تحالفا بتحالف آخر، وإنما هو تقديم للمصلحة الوطنية والاقليمية على أي اعتبارات اخرى بدون خسران الحلفاء التقليديين طبعا.

المقلق للغرب هو أن دول المنطقة تجد ميزة في التعاون مع الصين، وربما مع روسيا وغيرها أيضا، لا تتوافق مع التوجه الأميركي والغربي بالتصدي للصعود الصيني. أما الميزة في الصين فهي أيضا مثيرة لقلق الغرب.

فالصين منذ بدأت تعزيز علاقاتها مع دول خارج نطاقها الاقليمي الضيق، أي في بقية آسيا وافريقيا وغيرها، لا تربط اي تعاون تجاري واقتصادي أو مشروعات او استثمار مباشر بأي تدخل في الشؤون الداخلية التي تتعاون معها. ولا تفعل مثل الغرب في إعطاء الدروس حول جريات أو حقوق انان أوما شابه مما يستخدمه الغرب كأدوات ضغط أحيانا.

إنما الميزة الأهم في التعامل مع الصين، وربما أيضا مع كوريا الجنوبية وغيرها، فهي أنها لا تحظر عليك التكنولوجيا أوتفرض شروا وقيودا صارمة لاستخدامها مثلما تفعل أميركا أو دول الغرب. وهذه ميزة في غاية الأهمية لدول المنطقة التي تريد تطوير قراتها الذاتية في قطاعات مختلفة تتطلب نقل التكنولوجيا وتوطين المعرفة للبناء عليها وتطوير الابتكار المحلي.

على سبيل المثال، في مجال الطاقة المتجددة المستدامة تعمل الصين على تطوير صناعات توربينات الرياح لجعل توليد الكهرباء من الرياح أقل كلفة. وهذا النهج آخذ في التطور في المنطقة، وهناك ريادة إماراتية فيه خاصة في مجال الطاقة الشمسية. وتعمل الصين على التطوير المستمر لآلواح الخلايا الشمسية لتوليد الطاقة بما يخفض كلفتها ويجعل سعر الكهرباء المولدة بها أقل. كما أن السعودية ومصر تسعى لتطوير انتاج الهيدروجين الأخضر كمصدر نظيف ومستدام للطاقة.

كل تلك المشروعات سيفيد جدا التعاون مع الصين وغيرها من الدول التي تشارك تجاربها بأريحية في شكل تكاملي وربما حتى استثمار مشترك.