ويُضمر التعريف هذا تسليمًا بأمريْن اثنين: أنّ فعل الإنسان يحتمل القيام على الشرّ، كما على الخير، وأنّ الحرب فعلٌ إنساني – أو ظاهرة إنسانيّة – يُفصح عن هذ المنزِع الشرّير في الإنسان. المسألة الأولى فلسفيّة صرف، أمّا الثانية ففلسفيّة - سيّاسيّة على وجه التدقيق.

لم يعد الفصل الماهويّ التقليديّ بين الخير والشرّ، في فلسفات الأخلاق الكلاسيكيّة، ملائمًا لمقاربة الظواهر الإنسانيّة، اليوم، من وجهة النظر الأخلاقيّة L’Ethique الحديثة والمعاصرة. ليس من خيرٍ مطلق في مقابل شرٍّ مطلق؛ وما من إنسانٍ خيِّرٍ بإطلاق في مقابل إنسان شرّير بإطلاق. في داخل كلّ إنسانٍ، وفعلٍ إنسانيّ، قدْرٌ مّا من الخير والشرّ، يتفاوت فعْلُ أيّ منهما في نفسه ويترجّح مفعولُ أيّ منهما في عمله.

الناس ناس؛ لا ملائكة ولا شياطين؛ تتنازعُ أفعالَهُم الأهواءُ والرغبات والتعقُّلات؛ العفويّة الغريزيّة والحساب العاقل؛ الشهوةُ والعقل. أخطأ ميكياڤيلي وهوبس، قليلاً، حين افترضا الإنسان كائنًا شرّيرًا ب"طبيعته"، ولكنّهما أصابا حين شدّدا على قدرته على كبح الشرّ بالعقل (هوبس خاصّةً). وأخطأ جون لوك وجان جاك روسو، وإيمانويل كَنْت، كثيرًا، حين افترضوا الإنسان خيِّرًا ب"طبيعته"، وأنّ الشرّ من المضافات المكتَسبَة. ليس من "ماهية" أخلاقيّة طبيعيّة في هذا الباب. ثمّة بالأحرى، استعدادات لهذا ولذاك، يتكفّل التكوين والتربيّة حضورًا وغيابًا، شدّةً وارتخاءًـ بتنمية هذا المنزِع أو ذاك فيه.

ما يجعل الحرب تعبيرًا عن منازع الشرّ ليس فقط أنّ من أهدافها إلحاق الأذى بمن تقع عليه، بما في ذلك قتلُه وإفناؤُه وتدميرُ أسباب حياته ووجوده، بل لأنّها، أيضًا، تقترن بمصلحةٍ أنانيّة لدى من يشنّونها. والمصلحة – وإن عُقِلت – ليست بعيدةً من الغريزة: الإشباع، التملُّك. وكما تُسوِّغ الغريزةُ والرغبة في إشباع حاجةٍ مّا الميْلَ إلى استخدام القوّة وممارسة العدوان لتحصيل الحاجة تلك، كذلك تُسوِّغ المصلحةُ والحاجة إلى تحقيقها اللجوءَ إلى الحرب بوصفها وسيلةً مشروعة. ولقد أدرك فلاسفةُ العقد الاجتماعيّ – وأوّلُهم هوبس – دافعيّة الغريزة / المصلحة في دفع الناس، في حقبة ما قبل تكوُّن الدولة، إلى التقاتُل وإلى "حرب الجميع على الجميع" في اشتباكٍ دائمٍ وعبثيّ على تحصيل حاجةٍ ذاتيّة تمتنع على مَن مَنَحَتْهُمُ الطبيعةُ المَلَكَات – البدنيّة والذهنيّة – عينَها، لأنّ تحقيقها يعادل، في حساب الأشياء، الإفناء المتبادل.

في مقابل النظرة المثالية والرومانسيّة إلى الإنسان بوصفه كائنًا متعاليًا عن الحيوانيّ، وهي النظرة التي زادتِ الفلسفةُ الإنسانويّة من تكريسها، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، نشأت نظرةٌ واقعيّة أخرى إليه مبْناها على القول إنّه مزيج من كينونتين حيوانيّة وإنسانيّة، يعبّر عنهما تكوينُه العضويّ والنفسيّ والعقليّ، وترجّحُ أفعاله بين ما هو غرائزيّ وما هو عاقل.

تمتح النظرة الأولى (المثاليّة) من الإرث المسيحيّ (حيث اللّه خَلَقَ الإنسان على صورته)، فيما تتولّد الثانية من معاينة مخاضات الحروب الأوروبيّة، ومن استعادة الدرس الأخلاقيّ الإغريقيّ (الأرسطيّ خاصّة). وهي إذْ شدّدت على الغرائزيّ والنفسيّ في الإنسان – كما في التّـنين لهوبس والأخلاق لسبينوزا في القرن XVII – وجدت اندفاعتها في علم التشريح والبيولوجيا الداروينيّة في القرن الثامن عشر.

لا تعالَيَ للكائن الإنسانيّ، في هذه النظرة الواقعيّة، ولا لأفعاله من غير أن يعنيَ ذلك أنّها هبطت به إلى الدَّرْك الحيوانيّ. نعم، إنّ فيه من الحيوانيّة ما يدُلّ عليه تكوينه ونظامُ الغرائز فيه. ولكنّه يَقْوَى على كبح ذلك الحيوانيّ – كثيره أو قليله – فيه بالعقل. هكذا وفّرت هذه النظرة – وخاصّة بعد قيام نظريّة التحليل لنفسيّ ومفهومها عن العوامل غير الـمـُوعَى وغير المشعور بها في الأفعال الإنسانيّة – فرصةً لتحليل النوازِع والعواطف في الأفعال الإنسانيّة، بما فيها منازِع الشرّ التي لا يبرِّر الإقدام عليها عقلٌ أو مبدأ أخلاقيّ.

من البيّن، إذن، أنّ في وسعنا أن نطالع ظاهرة الحرب من وجهة نظر الأخلاق، كما نطالعها من وجهة نظر نظريات السّياسة والاقتصاد والدّفاع الاستراتيجيّ، وأن نقرأ فيها ذلك الفعل الإنسانيّ المدفوع بالغرائزيّة الحيوانيّة ومنازِع الشرّ الكامنة فيه، أو غير الخاضعة لرقابة العقل والأخلاق. وهذا ما يكشف عنه السّؤال التالي (المطروح على الفرضيّات الإنسانويّة والأخلاقيّة المثاليّة): إذا كان الإنسان خيِّرًا بـ"طبيعته"، فلِمَ يُقدِم على فعْلِ الحرب؛ وهي الشرّ كلُّه؟