الأصل في تطبيق قوانين أية دولة هو أنها تسري في نطاقها الجغرافي على مواطنيها وكذلك على الوافدين- وهو ما يسميه القانونيون "النطاق المكاني للقانون"- إلا في حالة وجود تقنينات تنظم علاقة الدولة بالوافد في معاملاته، وأحيانا تخضع لمبدأ "المعاملة بالمثل" أي ببساطة "كما تعامل دولتك مواطنيّ الوافدين عليها ستعامل دولتنا مواطنيك الوافدين علينا".

أما الامتياز الأجنبي فهو مخاطبة الدولة فئة أجنبية بعينها بقوانين تمنح تلك الفئة تسهيلات واستثناءات قانونية، وهذا إما بأمر مباشر من السلطة الحاكمة، كقيام بعض الدول بمنح شخص بعينه مثلا حق "اعتباره من المواطنين فيما يخص تملكه الأراضي والعقارات"- أو في شكل معاهدة بين كلا من دولة جنسية الشخص ودولة إقامته صاحبة السيادة.

وفكرة الامتياز الأجنبي في حد ذاتها ليست بالمعيبة، ولكن مضمون كل امتياز على حِدة هو الذي يكون محل تقييم ونظر من حيث كونه في مصلحة الدولة أو ضد صالحها.

سليمان القانوني وفرنسوا الأول ملك فرنسا

لم يبتدع السلطان العثماني سليمان القانوني الامتيازات الأجنبية، فمن قبله كانت ثمة امتيازات تجارية للأجانب في الدولة العثمانية، أبرزها تلك التي أقرها السلطان محمد الثاني للبنادقة والجنويين بعد فتحه القسطنطينية.

ولكن المشكلة تكمن في أن تلك الامتيازات التي ارتبطت بسليمان القانوني كانت فاتحة شر على العثمانيين وعلى الشعوب العربية الخاضعة لاحتلالهم!.

تبدأ القصة بصعود شارل الخامس ملك إسبانيا سليل آل هابسبورج وتحوله-بفضل لعبة الزيجات والمصاهرات السياسية آنذاك إلى ملك لإسبانيا وألمانيا والنمسا وهولندا وأجزاء من إيطاليا فضلًا عن مستعمرات في الشمال الأفريقي، وإمبراطورا لـ"الإمبراطورية الرومانية المقدسة" أي أنه قد بلغ شأنًا لم يبلغه أي إمبراطور منذ عهد شارلمان!.

المشكلة هنا أنه -من ناحية- قد صار يحاصر فرنسا بممتلكاته، ومن ناحية أخرى فقد أصبح يمثل القوة العظمى التي ستصعب على العثمانيين رغبتهم في ابتلاع شرق أوروبا وحلمهم بفرض سطوتهم عليها كلها وعلى البحر المتوسط بأكمله.

هنا ربطت المصلحة بين السلطان العثماني وملك فرنسا فرنسوا الذي كان قد عانى لتوه هزيمة ثقيلة مهينة على يد شارل الخامس سنة 1526 فسارع بإرسال سفرائه إلى إسطنبول لطلب مساعدة سليمان القانوني الذي رحب بذلك وقدم مساعدته التي تمثلت في قيامه بغزو المجر لفتح جبهة جديدة على الهابسبورج وتشتيتهم عن ابتلاع فرنسا، كما قامت القوات البحرية العثمانية بحماية سواحل فرنسا الجنوبية من أي عدوان إسباني، فضلًا عن توجيه الأمر لخير الدين بارباروسا بضرب بعض المدن الإيطالية تشتيتًا للعدو عن مواجهة الحلفاء الفرنسيين.

حتى الآن لا توجد أية مشكلة، فالأمر لا يتجاوز كونه نموذجًا لطالما تكرر على مر التاريخ من نماذج التحالفات والتوافقات ضد عدو مشترك.. ولكن.. بعد نحو عشر سنوات من التحالف سالف الذكر، خطت الدولة العثمانية خطوة كبيرة لتقع في فخ المعاهدة التي فتحت باب الشيطان على مصراعيه.

امتيازات مهينة ومقابل شحيح

في العام 1535 أرسل فرنسوا الأول سفيره السياسي النشط جان دو لا فوريه إلى السلطان سليمان الذي كان وقتها في حملة ضد الصفويين، واجتمعا في أذربيجان.

كان الغرض من السفارة هو إبرام اتفاق تحالف عسكري يقوم العثمانيون بموجبه بضرب سردينيا وصقلية في حال رفض شارل الخامس إعادة مدينة ميلانو لفرانسوا والاعتراف به ملكًا على فرنسا وهولندا معا.. وكذلك كان الملك الفرنسي يطلب قرضا قدره مليون قطعة ذهبية.

وثمة غموض يشوب الأحداث هنا، فالمطالب الفرنسية المعلنة كانت "سياسية" ولكن المناقشات والمفاوضات بين دو لا فوريه والسلطان تمخضت عن اتفاقية ذات طابع تجاري، وهو الأمر الذي حيّر المؤرخين المختصين بالشأن العثماني.

تمخضت المفاوضات عن اتفاقية من 16 بندا نظمت العلاقات التجارية بين الدولتين، ولكن البنود المثيرة بها كانت تلك التي منحت المواطنين الفرنسيين المتواجدين في الأراضي العثمانية امتيازات في مواجهة السلطات العثمانية! .

فمنها بند يجعل الاختصاص القضائي في النظر في دعاوى مدنية أو جنائية بين طرفين فرنسيين يقيمان في الدولة العثمانية من اختصاص القنصل الفرنسي وحده، وليس للسلطة المحلية أن تتدخل سوى بتنفيذ الحكم بناء على طلب من القنصل.

وبند يمنع من استدعاء أو استجواب المواطن الفرنسي في قضية طرفها الآخر عثماني إلا بحضور ترجمان القنصل، وهذا فقط لو وُجِدَ مع المدعي العثماني وثائق أو مستندات صادرة عن القنصل أو عن القاضي الشرعي، أما في حال لم توجد معه وثائق فلا تُسمَع دعواه.

وبند غيره ينزع اختصاص نظر الدعاوى ضد التجار الفرنسيين من القضاء الشرعي والمحلي ويضع على رافع الدعوى عبء التوجه للباب العالي وتحديدًا الصدر الأعظم لرفع الدعوى لديه، وبند آخر أكثر فداحة يقرر أن لو مواطنًا فرنسيًا قد استدان مالًا من أحد الرعايا العثمانيين أو اشترى منه بضاعة ولم يسدد ثمنها، ثم غادر الأراضي العثمانية دون سداد ما عليه، فإن أقارب المواطن الفرنسي والقنصل والسلطة الفرنسية غير مسئولين عن سداد المال المغدور!.

بل إن ملك فرنسا قد تمادى فطالب أن يكون من حق كل من بابا روما وملكا إنجلترا وإسكوتلاندا أن يتمتعوا بمنافع بنود هذه الاتفاقية لو أرادوا ذلك! ووافق السلطان سليمان القانوني، واُبرِمَت المعاهدة بالفعل!

لا تقف الصدمات عند ذلك، فبعد نحو 18 عاما من إبرام تلك المعاهدة، وتحديدا في العام 1553م قام الملك هنري-ابن فرنسوا الأول الذي كان قد توفي- بإبرام معاهدة ملحقة بسابقتها مع سليمان القانوني، مُنِحَت فرنسا بموجبها حق حماية المسيحيين الكاثوليك من رعايا الدولة العثمانية، وتم منح الفرنسيين إعفاءً من الخراج.

ومن فرط اندفاع سليمان القانوني في منح الفرنسيين الامتيازات قال سفير فرنسا لبعض خاصته إنه يتعجل موت السلطان لأنه يعرف جيدًا أن خلفاءه سيعطون فرنسا مزيدًا من الامتيازات!.

وفي العام 1569م تم تأكيد بند الحماية الفرنسية للكاثوليك العثمانيين، كما جرى السماح للفرنسيين بإرسال بعثات دينية كاثوليكية إلى البلاد العثمانية خاصة بلاد الشام.

سال لعاب الدول الأوروبية لهذا "الكرم" العثماني غير المفهوم، فبدأت الدول الأخرى تحاول الاستفادة منه بانضمامها لمعاهدة الامتيازات كإنجلترا التي انضمت سنة 1579م وهولندا التي لحقت بها سنة 1612م، وغيرها.

بل بلغ الأمر بعد ذلك أن منح السلطان مراد الرابع الفرنسيين حق حماية بيت المقدس!

وهكذا أصبح على أراضي الدولة العثمانية مواطنون أجانب لهم حقوق ليست للمواطن العثماني نفسه، ولهم أن يبسطوا رداء تلك الحقوق على أتباعهم والمشتغلين لديهم من العثمانيين، ولهم أن يتدخلوا في سياسات السلطة العثمانية تجاه الفئات التي حصلوا على حق "حماية مصالحها" من الرعايا العثمانيين!.

جدير بالذكر أن الاتفاقيات المذكورة لم تمنح الحق بالمثل للطرف العثماني، أي أنها كانت بمثابة انبطاح طوعي بأمر سلطاني!.

وما المقابل؟ لقد كان سليمان القانوني يطمع في أن يستخدم أسلوب "فرق تسد" ضد القوى الأوروبية، فيستميل فرنسا لجانبه، ويحاول العبث خلسة بالصراع الكاثوليكي البروتستانتي، ولكنه فيما يبدو كان قصير النظر في تلك المسألة.
فالفرنسيون تحالفهم كان مائعًا شكليًا، فهم يبدون الحماس للمشاركة في مهاجمة آل هابسبورج ثم يتقاعسون ويلوذون بالأعذار أو يشاركون بشكل باهت ظاهري، من ناحية لضعف قوتهم-آنذاك-ومن ناحية أخرى لأنهم كانوا يخشون اتهام المسيحيين الأوروبيين لهم بالخيانة لصالح عدو "كافر".. إلى حد أن بعض الفرنسيين كانوا يشاركون بشكل فردي في حملات آل هابسبورج ضد الدولة العثمانية، وهذا بعلم السلطات الفرنسية نفسها!.

والبروتستانت الثائرين ضد السلطة الكاثوليكية كانوا رغم الصراع الدامي بينهما لا يصل بهم الأمر إلى حد التحالف الصريح مع العثمانيين.

العاقبة الكارثية 

ثمة مثل مصري يقول "اعطوا القط مفتاح الكَرار"- أي اعطوا القط السارق مفتاح مخزن الطعام- وهو ما ينطبق على معاهدة الامتيازات المشؤومة.

ففرنسا أجادت مع الوقت استغلالها بحيث أصبحت فيما بعد-خاصة في القرن التاسع عشر- تتدخل كل حين في الشأن العثماني الداخلي-خاصة في بلاد الشام- بذريعة حماية الكاثوليك، وإنجلترا بحثت لنفسها عن فئة تتذرع بها للتدخل فاستغلت الصدام المسيحي الدرزي في الشام لتضفي حمايتها على الدروز.. وروسيا القيصرية تذرعت بمعاهدة "كوتشك قينارجي" لتدعي حق حماية الأرثوذوكس.

وسعت كل دولة لإضفاء الامتيازات على الفئة التي تحميها، وساهم في ذلك أن كثيرًا من أبناء الأقليات الدينية كانوا يعانون الظلم العثماني إلى حد أنهم يجدون أن تمتعهم بالحماية الأجنبية يعطيهم حقوقًا أكثر من تلك التي تمنحهم إياها المواطنة العثمانية!.

واستغل الفرنسيون البعثات الدينية الكاثوليكية بحيث يخلقون لأنفسهم-خاصة في الشام-قوة ناعمة تستطيع أن تحقق من خلالها مصالحها.

بل وبلغ بهم الأمر أن أنزلوا-الفرنسيون-قواتهم في لبنان سنة 1860م بحجة حماية الكاثوليك من عدوان الدروز.

هذا فضلًا عن الانبهار العربي بآليات وطرق المؤسسات التعليمية الكاثوليكية في وقت كان التعليم فيه قد هبط إلى القاع بفضل السياسات العثمانية المهمشة للتعليم والساعية لنشر الجهل والظلامية.. مما فتح الباب لتيار التغريب.

وساهم التآمر الاستعماري من ناحية والانبطاح العثماني من ناحية أخرى في غرس مخالب الطائفية البغيضة في البلدان العربية المحتلة عثمانيًا، وهي الآفة التي ما زالت بعض تلك البلدان تعانيها!.

وزاد الطين بلة أن تورطت السلطة العثمانية في الديون والقروض نتيجة للإسراف العثماني سواء في حياة القصور أو في المشروعات الإصلاحية، فأصبح سفراء فرنسا وإنجلترا وغيرهم شركاء للسلطان في صنع القرار!.

وأخيرًا أدرك العثمانيون أنهم قد ارتكبوا-منذ عهد سليمان القانوني-خطيئة كبرى بفكرة الامتيازات المذكورة، فحاولوا مرارًا التخلص منها، وإقناع المجتمع الدولي بأنها "منحة" من السلطان وليست "التزامًا" عليه.. ولكن هذا المجتمع الدولي كان ببساطة هو الدولة صاحبة الامتيازات، فكأنما كان العثمانيون يحكّمون الخصم!.

وأخيرًا، عندما انهار "رجل أوروبا المريض" سنة 1924 وكان "المستر" و"المسيو" قد تقاسما ممتلكاته في البلاد العربية، أسقط الأوروبيون الامتيازات الأجنبية بموجب معاهدة لوزان.

وبعد كل ما سبق.. يجد البعض الجرأة لكي يقولوا "لولا العثمانيون لوقعت بلادنا تحت احتلال الأعداء!".