في الموازاة كانت منصات التواصل الاجتماعي الشهيرة، تويتر وفيسبوك ويوتيوب، قد أدلت بدلوها في الحكم على الرجل، وألغت حساباته بهدف "منعه من الترويج لخطاب الكراهية في البلاد". ووفق تلك الأحكام، سواء قبلناها أو رفضناها، فإن قوى السياسة والإعلام تعمل على إقصاء رئيس منتخب عام 2016، وحقق رقما قياسيا تاريخيا في عدد الأصوات التي نالها في انتخابات نوفمبر الماضي.

يمكن فهم دعوة بيلوسي. للمرأة مرجعية شرعية عليا داخل الكونغرس، وبالتالي بالإمكان الركون إليها في دعوة الغرفتين، الشيوخ والنواب، لمحاكمة تدين ترامب بعد فشلها والديمقراطيين في تمرير الأمر لدى جمهوريي مجلس الشيوخ في فبراير الماضي. غير أن عملية الإقصاء التي قامت بها منصات السوشيل ميديا، تطرح أسئلة حول شرعية مرجعيات جديدة تقرر أهلية رئيس منتخب من عدمه، وفق منظومة قيم تقيمها إدارة تلك المنصات، وربما تكتيكاتها السياسية، ولما لا التجارية، الطارئة.

والحال أن تعرض المنصات الاجتماعية العملاقة لدونالد ترامب يعتبر تمرينا سهلا. الشخص إشكالي، تحيط به دوائر من الاتهامات والشبهات  هو نفسه لا ينفيها. يتهم الرجل بأنه شعبوي متطرف يلامس أفكار التفوق العرقي الأبيض. بيد أن ما هو تهمة يعتبره مناصروه وساما على صدره، لدرجة تبرر منحه أكثر من 74 مليون صوت في الانتخابات الأخيرة. ثم أن الرجل فاجأ أميركا ومؤسساتها قبل أربعة أعوام وأطاح بمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، بسبب لجوئه لرافعة انتخابية تنهل من السوقية والعنصرية وكل البضاعة التي تستفظعها المنصات، وباتت تعتبرها خطرا على الولايات المتحدة.

على أن أمر الصواب من الخطأ في الحكم على أداء رئيس للبلاد يصطدم مع فكرة الانتخابات والإذعان لما يصدر عن صناديقها. بمعنى أوضح فإن الصواب في الخيار ليس لصالح الأغلبية دائما، بل أن هذه الأغلبية قد تكون على خطأ، ما يطرح سؤالا إشكاليا حول كيفية تعامل المدافعين عن قيم معينة من تداعيات ما أختارته الصناديق.

ويجوز هنا استعادة المثال المُمل الذي يُكرر حول أن أدولف هتلر قد وصل إلى الحكم في بلاده بشكل ديمقراطي وعن طريق الانتخابات عام 1933. وإذا ما تمكن الرجل المنتخب آنذاك من التحول إلى حاكم مستبد في بلاده وإلى مهدد للأمن العالمي برمته، فإن ذلك يعود، وفق السيرة البدائية التي تروج له، إلى "أفكاره القومية ومعاداته للشيوعية" ولتمتعه إلى كاريزما ومهارة في إلقاء الخطب وإثارة عواطف المحتشدين (وكأن السيرة تتحدث عن ترامب في زمننا الراهن).

لا تسمح ديمقراطية الولايات المتحدة ومؤسساتها الحزبية والسياسية والدستورية والإعلامية العريقة إلى تحول "حادث" انتخابي إلى ديكتاتورية مطلقة. والمفارقة أن هتلر كان قد حاول القيام بانقلاب للوصول إلى الحكم عام 1923 ففشل، وسجن، فوصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات، فيما أن ترامب دخل إلى البيت الأبيض عن طريق الانتخاب، وسعى إلى عدم الخروج منه عن طريق ما قيل إنه محاولة إنقلاب فاشلة ضد الكونغرس قبل أيام.

على هذا يتأكد يوما بعد آخر أن معبد الديمقراطية يحتاج إلى حراس قد يصدف أن لا يكونوا منتخبين ولا يحظون بشرعية الاستفتاء العام.
ويتنامى في السنوات الأخيرة جدل داخل البلدان الغربية عامة، ينشد حماية الدولة والمجتمع والوحدة والاستقرار من المزاجيات غير المحسوبة لصناديق الاقتراع. وقد سال حبر كثير عن تلك الأغلبية في بريطانيا، في يونيو 2016 (52 بالمئة)، التي أخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وتمثل الحالة الأميركية الأخيرة مثالا لافتا حول كيفية تحول العملية الانتخابية الديمقراطية إلى أداة لزيادة الشرخ المجتمعي تحت عنوان حرية تعبير. تحرك كتلة مجتمعية من 74 مليون أميركيا لتعظيم شأن ترامب وإدامة حكمه وتكريس قيمه، كان يحتاج لتحرك كتلة مجتمعية مقابلة من أكثر من 80 مليون أميركيا صوتت لصالح جو بايدن البديل.

والغريب في الأمر أنه فيما كانت منصات تويتر وفيسبوك ويوتيوب تتحرك متطوعة للتصدي لسلوك رئيس البلاد، بدت المؤسسات، المناط بها حماية أميركا وصون وحدتها، مشلولة مقيدة بالطاعة لإرادة الرئيس الشرعي للبلاد حتى الـ 20 من يناير الجاري.

زحفت حشود الغاضبين بناء على طلب رئيس الولايات المتحدة، وبدت قوات الشرطة المولجة بحماية مبنى الكابيتول محتارة في معالجة أمر أنصار الرئيس، فيما الحرس الوطني الذي قيل إن الرئيس الشرعي قد رفض إرساله لإنقاذ المشرعين داخل المبنى، انتظر أن "يتمرد" نائب الرئيس الشرعي ويأمر بتحركه صوب الصرح الذي سقط بيد المحتجين.

لكن السؤال يحتاج إلى حفر أعمق لاستنباط فتوى حول منطق الشرعية وقيمها الحقيقية بين ما يخرج من ورقة الاقتراع وما يغرد به عصفور تويتر.