كـلُّ ما يفعله هذا الضّـرب من التّفكير المتوسِّـلِ كـليّاتٍ أنّـه يُسَـطِّـح الوعيَ ويـزوِّدُه بإدراكات مغلوطة للأشياء منظوراً إليها بوصفها عموميّات مُبهَـمَة، عصيّة على فهـمٍ من الدّاخل: داخِـلِها!.

منطق التّفكير بالكليّات منطقٌ إيديولوجيّ بامتياز؛ يركِّـب الكلَّ من جـزءٍ (لا من أجزاء) مفترضاً أنّـه هو عينُه الكُـلُّ في تَجَسُّدِه الجزئيّ. ما من معنًى يكتسبه الكلّيُّ من علاقاتٍ فيه هي قوامه، وإنّما يكتسبها من بعضٍ أو أبعاضٍ فيه يُنْظَـر إليها بوصفها الماهية. وفي هذه العمليّة البائسة، والماكرة، من تركيب كليّـةٍ من جزئيّةٍ بعينها - وخَـلْعِ سمات هذه على تلك الكلّيّة - يُصار إلى اطِّراح أجزاء أخرى واستبعادها، بل إخراجها من ذلك الكليّ رُمَّـةً وكأنّها من عوارضَ عَـرَضت له من خارجه، وما هي منه!.

هي، إذن، انتقائيّةٌ صارخة تلك العمليّةُ من تركيب كـلٍّ من جـزءٍ مُـفْـرَد؛ لأنّ مَبْـناها على انتقاء ذلك الجزء بعينه الذي يُـراد له أن يكون الكليّ أو أن يُـخْتَـزَل الكليُّ إليه. والانتقائيّة، على ما نَعْلَم، فـعْلٌ إيديولوجيّ من الدّرجة الأولى، لأنّها لا تكون ويستقيم لها أمـرٌ إلاّ من طريق إخفاء غيرها وطمس معالمه لئلاّ تقوم عليها الحجّة من وجوده. لذلك لا تكشف الانتقائيّة عن بنية الأشياء، لأنّ البنية عصيّة على التَّحـدُّد بأحـد عناصرها التّكوينيّة.

ليستِ الكليّات التي يُـفَكَّـر بها مفاهيم، لأنّ للمفهوم - في وضْعه statut الإيـپـيستيميّ- حـدَّه النّظريّ الذي به يَـنْماز عن مفهومٍ يقاربه في الدّلالة، فيما الكليّات مغلقَة على معنًى نمطيّ مع أنّ داخلها مزدحمٌ بالدّلالات المتبابنة و، أحياناً، المتقابلة. إنّها (= الكليّات)، بالأحرى، مستودع لعددٍ لا محدودٍ من المفاهيم يمكن بناؤُها من داخلها ما إن يُكْـسَر- بالنّقـد والتّفكيك - انغلاقُ تلك الكليّات على نفسها.
من أسـفٍ أنّ منطق التّفكير هذا هو الغالب على أهـل القلم: في بلادنا العربيّة وفي العالم؛ والفارق بين الثّقافات في هذا فارقٌ في الدّرجة لا في العِلّـة. وهو رسخ رسوخاً مخيفاً حتّى ليَكادُ المرء يَحَـار في تفسير «أسباب النّزول»: هل لفقرٍ إيپيستيميّ يستبدّ بالعقول والأذهان فيكْـبَحها عن تبيُّـن الفواصل والتّمايُـزات داخل الظّواهر المدروسة في مقابل تغليب الجوامع عليها؟ أم لغرضٍ يُغْـتَرض اغتراضاً ويُـقْصَـد؛ هو التّعميّة والتّغليط من طريق الاشتغال بالكليّات؛ أم لسبب آخر قد تبرّره، أحياناً، حاجـةُ الأنا الجمعيّة إلى التّشرنق على ذاتها في كليّةٍ عازلة: تعزلها عن غيرها الذي تشتبك معه: مادّياَ أو رمزيّاً؟

كان المستشرقون، مثلاً، يتحدّثون عن الإسلام بما هـو كليّةٌ مُـنمَّـطة معبَّراً عنه بالاصطلاح Islam، فيما قـليلون منهم مَـن تـناولوه بوصفه islam، أي من غـير تنميط، أو بما هـو متعـدّد. ومثلهم - بـل أسوأ منهم - يفعل الدّارسون الغربيّون إذْ يتوسّلون التّعميم فيتحدّثون عن الإسلام بوصفه كليّة مغلقة ترادِف في المعنى العنف، وكراهيّة الآخر، والإرهاب، ونبذ العقل والتّمسُّك بالنّصّ. ثمّ لا يلبث صغار كَـتَـبَـتهم أن يسلك مسْلك تنزيل هذه الصّور النّمطيّة فـ «يستدلّ» عليها بمجسّمات سياسيّة من قبيل «القاعدة» و«داعش» وأخواتهما من الجماعات «الجهاديّة» التي أنجبتها - في عُرفهم - ثقافةُ الإسلام.

هذه سرديّة إيديولوجيّة بامتياز، وسرديّة انتقائيّة. وهي لا تعني أنّه ليس في تراث الإسلام ثقافةٌ مغلقة رَبـيَت عليها هذه الجماعات وبها تشبّعت، بل هي موجودة ومستمرّة حتّى يوم النّاس هذا. ولكن هل يجوز أن يُـخْتَصر الإسلام في الخوارج والفقهاء وابن تيميّة وابن قيم الجوزيّة؛ هل نرمي بالمعتزلة، والفلاسفة، والعلماء، والشّعراء، وكتّاب النّثر، والنّحاة، والبلاغيّين، ومؤرّخي الأدب، والجرجاني، وابن عربيّ، وابن خلدون إلى المزبلة؟ أليسوا من تراث الإسلام الفكريّ والثّقافي؟.

يفعل المثقّفون العرب مثل هؤلاء وأكثر في توسُّلهم الكليّات المغلقة. ليس شرطاً أن يجتمعوا على تعريف تلك الكليّات وأخْذها بالمعنى عينِه؛ فقد يختلفون في التّعيين، لكنّهم يتّفقون في التّفكير بمنطق الكليّات وإنِ انقسموا عليها. نسمعهم يُطلقون الكثير من الكلام على الغرب. الغرب عند فريقٍ منهم رديفٌ للاستعمار، والنّهب، والسّيطرة، وإبادة الشّعوب الموطوءة أراضيها، والإمپريالية، والعنصريّة، والحروب الظّالمة على الشّعوب المستَضْـعَـفة، والتّقسيم والتّجزئة الكولونياليّة للأوطان، والنّزعة المركزيّة ونزعة التّفوّق...إلخ. والغرب عند فريقٍ ثانٍ رديفٌ للأنوار، والحريّة، والدّيمقراطيّة، والعقل والعلم، ومبادئ حقوق الإنسان، والتّسامح والاعتراف والاختلاف، والإبداع، والحضارة...إلخ. الغرب عند الأوّلين هو الشّرّ المستطير، وعند الأخيرين هو المثال الذي ينبغي أن يُـؤْتَـثَر ويُحْـتَـذَى وهو أَعَـزُّ ما يُطْـلَب.

هكذا تُلفي الفريقَ الواحدَ منهم يتحدّث عن وجْهٍ بعينه من الغرب متعالياً به إلى حيث هو الغرب والقرينةُ الأوحـد عليه، آتياً على الوجه الثّاني بالسّتْر والإخفاء، بل بالتّغييب والمَحْو والإلغاء؛ والحال إنّ ذلك من الإيديولوجيا والانتقاء الإيديولوجيّ الذي لا تكون به معرفة.
الغرب هو هذا وذاك في الآن عينِـه، مثله في ذلك مثل الإسلام وتراثه. إنّه كُـلٌّ متعدِّد، متناقِض «الماهيات» وليس كليّةً مغلَقة تَـقْبَل التّعريف بلغة التّعميم التّغليطيّة. وحين يكون الغرب، ويكون الإسلام - وتكون معهما كلُّ كليّةٍ مغلقة أخرى - بهذه المثابة، يصبح ممكناً حينَها أن يُقْرأ في تعدُّده بمعزلٍ عن أيّ تنميط. حينها يصير على البحث أن ينصرف إلى بيان الأسباب الكامنة وراء وجود حيّزات ولحْظات مظلمة وأخرى تنويريّة داخل هذا الكلّ. وحينها، أيضاً، نفكّر متحرّرين من نزعتين بغيضتين؛ مختلفتيْن في المبادئ والأهداف متضافرتيْن في النّتائج: النّزعة التّبجيليّة والنّزعة التّحقيريّة أو الإنكاريّة؛ وهُما معاً عدميّتان.