وفي العادة ننفق نصيباً سخيّاً من أعمارنا، كي نكتشف كم هذا الإبداع كائنٌ حيّ. ليس حيّاً وحسب، ولكنه ذو استقلالية عن مشيئتنا،  بل وعن واقعنا، فهو ذو شخصيّة حرفيّة، يأبى إلّا أن يتحفنا بحجّة تقول أن ما ننفث فيه من أنفاسنا، ينفث فينا من أنفاسه. ما نشقى كي نصنعه، يصنعنا، ما نجود بالوقت النفيس كي نطوّعه، لا يبخل بالوقت أيضاً كي يطوّعنا؛ وما نعاند لكي نروّضه ترويضاً، يعاند أيضاً كي يروّضنا؛ فطبيعتنا طينة ملفّقة من طينة نزيفنا، لأنه ببساطة يسكننا عميقاً بقدر ما نسكنه. فالإبداع أيضاً صفقة، صفقة نفعيّة، لا تختلف عن الصفقة التجارية، التي نتبادل فيها الأدوار، فلا نعود نعلم عمّا إذا كان ما نبدعه هو موضوعنا، أم أنّنا نحن له الموضوع، فلا ندري عمّا إذا كنّا نحن مَن يكتبه أم أنه هو، في الواقع ما يكتبنا. وهو ما يعني أن الإبداع يستعير سلطة غيبية فينا، بحيث يمحو فينا الشخص، ليستنزل فينا هويّة النصّ.

مدى اغتراب هوية الشخص كشخص، يغدو منذ الآن هو القياس في مدى أصالة النصّ. في مدى اعترافنا بحقيقة الإبداع في النصّ. فكلّما غاب الشخص كشخص، ليستعير سلطة النصّ في إبداعه، كلّما حقّ للنصّ أن يتباهى بقدرته على انتحال هويّة الشخص، بعد أن أفلح في طرد الشخص من واقع النصّ، وبالتالي، من واقع الوجود كشخص.

هذا السلطان، القابع في شرايين مارد كالنصّ، ترجمة أمينة لميتافيزيقا أي نصّ، عبّر عنها موقف ذلك النموذج الأسطوري، الذي استمات في خصامه مع الامبراطور الروماني، فأعجزت الامبراطور الحيلة في إجباره على الإعتراف، ليهتدي، بوحيٍ من أحد الدهاة، إلى إلقاء نصّ النموذج في النار، فما كان من الضحية إلّا أن ألقت بنفسها في اتون النار، لسببٍ بسيط وهو أن جسدها لم يعد جسداً منذ صيغ في النصّ، ووجودها لم يعد وجوداً، لأن روحها هو ما التهمه لسان النار، وليس مؤلف هذه الروح؛ ولهذا السبب لم يعد وجود شخص المؤلف خارج النار مبرراً، لأن وجوده في النصّ، بحيث غدا النصّ هو الهويّة، هو المؤلّف والشخص خارج أتون النار مجرّد شبح، ومن المنطقي أن يلتحق بحقيقته التي تعاند اللهب في موقد النار!

هذا يعني أن مبدع النصّ، لا يعود بالهوية مجرد مؤلف، لا يعود مجرد فرد يتنكّر في جرم شخص، ولكنه نصٌّ يتقمّص شبحاً هو الشخص. لأن القيمة، التي استزرعها فيه النصّ كمعجزة خلق، تنفي فيه الماهية المكتسبة بالميلاد الطبيعي، لتُحيي فيه طبيعة أخرى، حقّقها فيه الميلاد الثاني، الميلاد الروحي، بتحريضٍ من معلّم لم يقرأ له حساباً، في ذلك اليوم، الذي اقتحم فيه حرماً غيبيّاً هو النصّ، النصّ المسكون بعرّابٍ هو الإبداع، متوهّماً أنه سيبقى، بسلطة الحرَم، خارج المغامرة الخطرة، دون دفع قرابين؛ فإذا به يدرك، بعد نزيف سخيّ، أن التماهي هو الثمن المتوجب في الرهان الموجع، لإحداث حلم كل إنسان في هذا الحضيض، وهو: التحرير! التحرير، الذي لا يتحقق بدون طلسم إسمه: التغيير.

وهو ما يعني أن الطرف الذي اختار أن يبارز نصّاً لكي يبدع، إنما يستميت لكي يبدع نفسه في الواقع، يبارز لكي يغيّر ما بنفسه، كسبيلٍ وحيد لتغيير ما بالعالم، وعليه، بعد كل هذا النزيف، أن يعترف لنفسه باعتناق دين النصّ. دين الذخيرة الغيبيّة التي تسكن ما نسمّيه إبداعاً، الإبداع المخوّل بأن يلعب دور المعلّم، دور العرّاف الذي يلهم، فلا يكتفي، ولكنه يربّي أيضاً بعد أن يلهم، لأن الغاية هي الخلاص: الخلاص الذي لا يتحقق بدون حرية. والحرية لا تتحقق بدون عملٍ تحريري. تحرير ما بالنفس، لتحقيق تغيير ما بالنفس. وهو تغييرٌ رهين العمق في التجربة الإبداعية. عمق لن يبخل بالنزيف الروحي لإنجاز المنزلة الأسمى في سلّم هذا العمق: العمق في حرف لغزٍ هو الوجود.

أفلا يعني هذا أن النصّ هو الشخص، الأكثر سلطاناً في حمّى النزيف، المدعو إبداعاً، من سلطة أي سلطان، فلا يكتفي بأن يميت فينا إنسان الميلاد، المجبول بشهادة أمٍّ هي الطبيعة، ليُحيي فينا جوهراً كان مغترباً، ولا نكتشف أن هذا المارد هو الروح، التي تأبى إلّا أن تلقّننا الدرس الأخلاقي أيضاً، إلى جانب الدرس الكينوني الذي آلى الإبداع على نفسه أن يحققه فينا، عندما ندمنه إدمان الافيون، فيحسن كتابتنا، كما نحسن نحن كتابته، وفاءً من كلينا لبنود العهد المبرم بيننا؟

فالروح الرسالية في النصّ، تمتلك نفوذاً يبطل فينا مفعول هوية حرفيّة كالشخص، لتولد فينا جنيناً مشفوعاً بحرية البعث.

بعث أنفسنا من عدم الحضور في واقع الحسّ، هو ما يدفعنا لكي نكتب النصّ، طمعاً في استعادة الحضور في فردوس البُعد الضائع.

هذا يعني أن الأعظم شأناً من الكتب التي نكتبها، هي أن نعمل ما من شأنه أن يجعلنا أهلاً لتلك القيمة، التي تجبر الكتب على أن تكتبنا، بدل أن نكتبها، باستيعابنا للدرس، لا الأخلاقي وحسب، ولكن الدرس الوجودي أيضاً، الذي لم تُخلق الكتب إلّا لكي تحرّضنا على اعتناقه في تجربتنا ديناً.