والحقّ أنّه بمقدار ما هو مشروع أن يُنْظَر إلى هذا التّجاذب بين الكونيّة والخصوصيّة بما هو تجاذُبٌ بين حدّيْن ينبغي الاعتراف لكلٍّ منهما بمشروعيّته وحقوقه، بمقدار ما قد يكون التّقابُل بينهما غيرَ ذي موضوع لجهةِ ضَعْف حجّةِ دعاة الخصوصيّة في تسويغ مطلبها أمام الكونيّة. لا يتبيّن الفارق بين الحاليْن إلاّ متى دقّقنا في معنى مفهوم الخصوصيّة فميّزناهُ عمّا يمكن أن «يشترك» معه في الدّلالة من مفاهيم.

ليستِ الخصوصيّةُ رديفاً في المعنى لِـ  الأصـالة. يَرُدُّ مفهومُ الأصالة إلى طبائعَ ثابتةٍ لا تتغيّر هي من الأشياء بمنزلة ماهياتٍ لها. والأصالةُ، بالمعنى هذا، بنيةٌ مغلقة على نفسها، تكراريّةٌ تعيد إنتاج ذاتها باستمرار. لذلك لا يمكن للأصالة إلاّ أن ترى في الكونيّة نقضاً لها وإلغاءً. وما هكذا هو معنى الخصوصيّة التي تُسَلِّم بوجود مشتَرَكات؛ هي التي بها يتكوّن ما هو كونيّ، ولكنّ التي تشدّد، في الوقت عينِه، على الفواصل والتّمايزات بين البنى والأشياء تَحْفَظ لكلٍّ منها ما هو خاصّ ومميّـزٍ، من غير أن تُصِرّ على رفْع ذلك الخاصّ إلى مرتبة الماهية والجوهر الذي لا يجري عليه تغيير، كما هو الشّأن في مفهوم الأصالة.  هكـذا  يَسَع  التّمييزَ بين المفهوميْن أن يُجنّبنا  الخلط  بينهما - وهو شائع - وحمْلَ معنى الواحد منهما على الآخر، وأن يُظهِـرَنا على جواز توسُّلِ مفهوميْ الكونيّة والخصوصيّة للتّفكير في ظواهر تنتمي إليهما على وجْهٍ لا شذوذ فيه.

بين الكونيّة والأصالة تَجافٍ مَاهَوِيّ مُطْلق؛ كلاهُما يستبعد الثّاني، فلا كونيّة ممكنة بوجود أصالات/هويّات مغلقة مُقْفَلَة على مفاعيلها هي ككونيّة؛ فلا أصالة ممكنة بوجود كونيّة تهدّدها بإهدار كيانها وابتلاعها. لذلك يبدو العداء بين دعاة هذه وتلك مفهوماً بالنّظر إلى ما يقوم بينهما من تناقُضٍ حَـدّيٍّ غيرِ قابلٍ للحلّ إلاّ على حساب أحدهما. وهو تناقضٌ لا يَني يتزايد حدّةً مع الزّمن، في امتداد تزايُد وتيرةِ اتّساعِ نطاقِ الكونيّة، واكتسابِها جغرافيّاتٍ اجتماعيّةً وسياسيّةً وثقافيّة عديدة، في سياق حوامل عدّة تسمح لها بذلك ليستِ العولمةُ إلاّ واحدةً منها. والحال أنّه كلّما زحفتِ الكونيّة أكثر، زادت فاعليّةُ مقاوماتها باسم الذّاتيّة والهويّـة والأصالة... إلخ على ما بِـتْـنا نشهد عليه.

تختلف العلاقة بين الكونيِّ والخصوصيِّ. من العسير أن يقال إنّهما يعترفان لبعضهما بمشروعيّة الوجود والاستقلال، ولكنّهما ليسا في حالةٍ من التّناقض والمواجهة من النّوع الذي بين الكونيّة والأصالة. ربّما كان مثلُ ذلك الاعتراف صحيحاً في حالة الخصوصيّة التي تُقِـرّ بما هو جامعٌ أعلى يشترك فيه الجميع كونيّاً، أمّا الكونيّة فالغالب عليه جنوحُها نحو فرض نفسها ومنطقها على العالم كلّه؛ ربّما لأنّها نشأت - كفكرة -  في بيئات العِلم والاقتصاد، أعني منذ الثّورات العلميّة ونشوء الرّأسماليّة؛ أي في تلك البيئات التي لا يمكنها أن تكون محصورةً في جغرافيا سياسيّة وثقافيّة بعينها. لذلك غالباً ما تجد الدّعوة إلى احترام الخصوصيّات (الدّينيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة...) بعض الصّعوبة في استدراج اعترافٍ بها من قبل دعاة الكونيّة؛ هؤلاء الذين يخطئ الكثير منهم في خلْطه، المتعمَّد أو غير المُوعَى به، بين الخصوصيّة والأصالة فيعامِل الأولى معاملةَ الثّانيّة بحيث لا يلتمس لها أدنى حقٍّ في الكينونة والاستقلال النّسبيّ!

لا مِرْيـةَ في أنّ في القيم - المادّيـة وغير المادّية - ما هو كونيّ عابرٌ لحدود الأوطان والمجتمعات والثّقافات، بحيث لا مكان للمجادلة فيه. العلمُ، والعقلُ، والنّظامُ، والحقوق، والحريّات، والمساواة، والكرامة الإنسانيّة، والتّكافؤ، والسّلام، والتّضامن بين الشّعوب، والسّيادة، والاحترام المتبادل، والالتزام بالعهود والمواثيق، وحماية البيئة... هي، مثلاً، ممّا يقع التّسليم بأنّها كونيّة، لا سبيل إلى نيْـل مجتمعٍ أو دولةٍ منها باسم خصوصيّةٍ مّا. غير أنّ هذه لا تنفي وجود خصوصيّات غير قابلة للإهدار والمحْو باسم كونيّةٍ مّا خارج التّاريخ؛ ذلك أنّه داخل وحدة الكونيّة الإنسانيّة الجامعة، توجد أوطانٌ/ وتواريخ خاصّة، ووطنيّات متمايزة، وثقافات ولغات متعدّدة، وأديان مختلفة في التّعاليم والتّشريعات...إلخ؛ وهذه جميعُها ممّا لا تَقْبَل التّجاهُل، لأنّها تدخل في تكوين نسيج المجتمعات والذّهنيّات بقوّةٍ متولّدةٍ من قوّة التّاريخ الذي كرّسها في تلك المجتمعات. وكما أنّ في مناصبة الكونيّة اعتراضاً ما يطعن على إنسانيّة الإنسان، أي على كونيّة كينونته في هذا العالم، كذلك في مناصبة الخصوصيّات عداءً طعناً على تاريخيّة الإنسان واجتماعيّته، أي من حيث هو ابن تاريخ خاصّ (ثقافيّ، دينيّ...) ومجتمعٍ بعينِه مسكونٍ بمواريثه من القيم. في الحاليْن، سنُدخل الحدَّين معاً في دائرة شكٍّ لا يعود معه فيها جائزاً أن نتوسّلهما في التّفكير!