لا يعني ذلك أن الصين لا تسعى لتعزيز قدراتها ومكانتها الدولية، وأنها لا تضيع أي فرصة للدفع باتجاه "نظام عالمي متعدد الأقطاب" لا تنفرد فيه الولايات المتحدة بالقيادة والريادة.

حتى وقت قريب، كان الصراع بين بكين وواشنطن اقتصاديا بالأساس مع نمو الاقتصاد لبصيني ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ويقترب من إزاحة الاقتصاد الأميركي عن عرش الاقتصاد العالمي إذا واصل النمو بوتيرة سريعة. واستخدم في الصراع سلاح العقوبات والحظر وفرض الرسوم على الصادرات.

الآن، لم يعد الاقتصاد الصيني ينمو بتلك الوتية التي تساوي أكثر من ضعفي متوسط معدل النمو العالمي. فبدأ الحديث عن التقدم التكنولوجي في الصين، وكيف أن بكين استفادت من نقل الشركات الكبرى في العالم أعمالها إليها كي "تنقل" – وأحيانا تتهم بأنها "تسرق" – التكنولوجيا وتوطنها وتطورها حتى كادت تسبق الغرب.

وقبل ذلك، أطلقت الحملات المتتالية على توسع الصين في علاقاتها الاقتصادية مع دول آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية. واتهمت الصين بأنها "مستعمر جديد للموارد الطبيعية"، وأنها تغرق الدول الفقيرة بالديون لتفرض شروط التعامل معها. وكأنما الغرب يسقط ماضيه وتاريخه الاستعماري على تعزيز الصين علاقاتها الاقتصادية الخارجية.

ليس القصد الدفاع عن الصين أو روسيا أو غيرها، فكلها دول تعمل لمصلحتها وهو أمر مشروع تماما. وتتنافس مع القوى المهيمنة تقليديا من أميركا وأوروبا على أساس تقديم مصلحتها الاقتصادية الوطنية. لكن الصراع الآن انتقل إلى مرحلة جديدة، خاصة بعد موقف الصين المحايد نسبيا من الحرب في أوكرانيا وإن استفادت من الوضع بتعزيز علاقتها مع روسيا.

الأسبوع الماضي، قامت الدنيا ولم تقعد في الغرب مع إعلان القيادة الصينية زيادة طفيفة في الميزانية الدفاعية للبلاد. ذلك على الرغم من أن معدل الزيادة في الانفاق العسكري لم تختلف كثيرا عن المعدل السنوي على مدى السنوات الثماني الماضية. صحيح أن زيادة الميزاتنية العسكرية بنسبة أكثر من 7 في المئة يجعل نموها أعلى من نسبة النمو الاقتصادي المقدرة بنحو 5 في المئة، لكنه سياق متسق مع الارتفاع البطئ للصين في مؤشرات كثيرة عالميا. ومنها أن الصين أصبحت في الترتيب الثالث على مؤشر القوة العالمي بعد الولايات المتحدة وروسيا.

ربما ما أزعج الأميركيين، ويحاولون نقل هذا الانزعاج إلى حلفائهم وغيرهم، هو تعهد الرئيس الصيني بأن يجعل من جيش الشعب "السور الفولاذي العظيم" لحماية البلاد والدفاع عن أمنها ومصالحها. لكن الانفاق العسكري الصيني يظل يمثل نسبة ضئيلة جدا من الناتج النحلي الإجمالي، مقارنة بنصيب الانفاق العسكري من الناتج المحلي الاجمالي لدول أخرى مثل الولايات المتحدة وغيرها.

في النهاية، تظل ميزانية الدفاع الصينية عند نحو 1.5 تريليون يوان (224 مليار دولار). في الوقت الذي تصل فيه ميزانية الدفاع الأميركية إلى نحو أربعة أضعاف هذا المبلغ عند 858 مليار دولار. وإذا أخذنا في الاعتبار المقارنة بين عدد سكان الولايات المتحدة وعدد سكان الصين، سيكون المبلغ المخصص للدفاع لكل فرد في غاية الضآلة في الصين مقارنة مع دول كثيرة.

أما استعارة الرئيس الصيني للتاريخ والتراث في الحديث عن تعزيز القدرات الدفاعية، بوصف يقابل "سور الصين العظيم"، فتلك مبالغة سياسية تستدعي الإرث الصيني التقليدي. حتى مشروع تعزيز التعاون الاقتصادي مع دول العالم سمته القيادة الصينية "مشروع الحزام والطريق" في استدعاء للخط التجاري القديم "طريق الحرير" الذي كان يربط الشرق بالغرب.

ربما كان وراء تلك الحملة المتصاعدة على الصين، ليس فقط اتهامها بمساندة روسيا في حرب أوكرانيا، وإنما القلق المتزايد في واشنطن ولندن وغيرهما من العواصم من اتساع مجال الصراع مع القوة الصاعدة في آسيا بعيدا عن مجال الاقتصاد والتجارة. خاصة وأن الرئيس الديمقراطي الحالي في البيت الأبيض جو بايدن لطالما افتخر بأنه "الرجل القادر على بناء تحالفات"، إلا أن صحيفة وول ستريت جورنال نشرت افتتحاية من مجلس التحرير هذا الأسبوع تسخر من ذلك وتتهم بايدن بأنه على وشك خسارة أهم حلفاء أميركا في الخليج لصالح الصين.

فبغض النظر عن أهمية إعلان عودة العلاقات الدبلومسية بين السعودية وإيران، الذي جاء من العاصمة الصينية بكين، ومدى نجاحهة في إعادة الأمن والاستقرار لمنطقة فإن الملمح الذي ركز عليه العالم هو رعاية الصين للاتفاق. وبدأ الحديث بكثافة عن وضع الصين قدما ثابتة لها في المنطقة محل التراجع الأميركي في الشرق الأوسط.

وكعادة الغرب، الذي تمنعه "عمجهيته" أحيانا من الإقرار بالخطأ إلا بعد فوات الأوان، لا يلوم الأيمريكون أنفسهم وتخليهم عن حلفائهم في المنطقة بل يتهمون الصين بأنها توسع نفوذها في مناطق مصالحهم. وتبدو الأجواء، من كم المقالات والتحليلات والتعليقات في الإعلام ومن مراكز الأبحاث، وكأن الولايات المتحدة وربما بعض حلفائها الغربيين يعدون العدة لتصعيد الصراع مع الصين. زربما يكون ذلك مبررا للريس الصيني لطمأنة شعبه بأن القيادة تطور جيش الشعب ليصبح السور الفولاذي العظيم الذي يحميهم ويدافع عن مصالحهم.