كما الحال بين الخلَّيْن، أن تغادر أحد الجسدَين، لتبقي قسطاً منها في جسد الخلّ الآخر، الذي احتفظ بأنفاس النزع الأخير؟ أم أن الروح معجزة أوتيت عبقرية أن تنقسم إلى شطرين فقط لكي تكافيء فضيلة جليلة كالصداقة، عندما قبلت بأن تسكن جسدين منفصلين، لتبرهن كم هي الصداقة إعجاز يرتقي إلى مستوى المُحال.

فلا حيلة لتأويل أحجيتها سوى أعجوبة في مستوى الروح، التي قبلت التحدّي في الإنفصال من باب الاستثناء، الذي يسفّه القاعدة في طبيعة الأشياء، وهو مزاج، أو امتياز، مستعار من طينة الروح الجدليّة، وإلّا لما كانت البرهان في الهشاشة، كما أنها البرهان في السطوة.

فالدراما في الازدواج الناجم عن اغتراب الروح في بُعدَين، بحضورها المشروط في بدن مخلوقين، لمجرّد ارتضائهما العمل ببنود عهد مقدّس، مشفوع بالحبّ، إسمه: الصداقة. وهو بقدر ما هو إعجاز بقدر ما هو تجديف في حقّ الطبيعة، التي تُنكِر هذا الإغتراب عندما يتعلّق الأمر بالتثنية، لأنها لا تعترف بالاندماج، إلّا في حال الشروع في عمل ما من شأنه أن ينتج النوع، لضمان بقاء الوجود قيد الوجود.

فالصديق الذي تنصّل من الواقع، فأقلع، هيهات أن يتنصّل من ميثاق العهد، القاضي بأن يستضيف طرفان بعضهما بعضاً، اقتسما روحاً، ما كان لها أن تقبل القسمة لولا سلطة الحبّ، الذي نسمّيه صداقةً، استعارةً من مفردة بريئة، مجلّلة بالفتنة، هي: الصدق، المفطورة بوسام هو: الحقّ. وعندما يرتحل هذا الطرف في المعادلة، فإنه ينتهك حرمة العهد، لإحداث خلل في الصفقة الغيبية، المعتمدة بمشيئة سلطان هو الحبّ، الذي قد يعترف بالإنفصال في حال كان الإتصال، في الأصل، بنيّة تحكّم في العلاقة مع جناب الحسّ، لإبداع النوع، كما الحال مع قران امرأة برجل، ولكن هيهات أن تبارك انفصال علاقة برأسمال الروح، فتقبل اغتراب هذه الروح عن الروح.

ولهذا السبب يستقطع منّا الأخلّاء الذين غادروا، نصيباً من روح غير قابلة للإستقطاع، إلّا في حال الاعتراف بتجديد في صيغة الصفقة الملغاة بحكم غياب أحد الطرفين، على نحوٍ يضمن حقوق الطرفين رغم أنف الوفاة، وذلك بتبادل ماكر للأدوار، بحيث يتنازل طرف عن نصيب من وجوده، يدفعه ليكون زاداً للطرف الذي ارتحل في أبديّته، مقابل أن يجود هذا الطرف المرتحل بقسطٍ من أبديّته، ليكون هذا القسط بمثابة تعويذة عزاء، تهوّن على القرين مرارة الفَقْد.

فالغصّة التي تخنق مريد الوجود هي جنسٌ من مِيتة، مستعارة من النصيب المستحقّ من غنيمة الروح في ارتيادها لبلاط الأبدية، ليموت المريد ميتة في حجم مصغّر، إذا ما قورن بمية القرين الكبرى، يموت بميتة القرين، كما يحيا القرين بالنصيب الذي استقطعه بحكم خلود الروح التي لا تموت، ممّا سيعني أننا مفقودون أيضاً بفقدهم، كما هم أحياء بوجودهم فينا، في روحنا، في ذاكرتنا. نحن مسكونون بهم، كما هم مسكونون بنا، نحن أحياءٌ في وجدانهم، كما هم أحياءٌ في وجداننا، وأن يكون الفقيد مسكوناً بنا يعني أنه موجودٌ بنا، كما نحن موجودون به في أبديّته.

وهو ما يستوجب تعديلاً في صيغة الفقد كمفهومٍ عدمي، ليغدو الفقيد مفقوداً، لا فقيداً، لأن المفقود في العُرف قابل لأن يستعير بُعداً مستعاداً، بعد أن كان رهين الفقد. نحن أمواتٌ بالفقد، وهم أحياءٌ بالموت، أحياءٌ فينا بقدر ما نحن أمواتٌ فيهم. فعندما نرثي الصديق فنحن نُحْيِيه بالرثاء ولا نرثيه، بل نرثي فعلياً أنفسنا فيه، نرثيه بالنصيب السخيّ منّا، الذي استقطعه ليحمله معه، لكي يكون له، في اغترابه عن واقعنا، شهادة براءة في رحاب بُعْدٍ مفقود لا وجود فيه لعدم.

فنصفنا ضائع، بموجب بنود الصفقة، كما نصف من ارتحل رهين وجود، لأن لا أحد من الطرفين يملك الحقّ في التنصّل من الحقوق المكتسبة بنصوص القسمة بين قطبين إثنين ارتضينا اقتسام الروح التي لا تفنى، فكيف لهما أن يعترفا باغترابهما عن بعضهما دون التجديف في حقيقة الروح، التي لا تفنَى، مما سيعني استحالة الإعتراف بوجود الفراق، برغم هيمنة شبح الفقد؟

ولكن التحدّي سيعبّر عن نفسه في الاستنزاف. فمن قُدّر له أن ينازل بعبع الفَقْد، من موقع الوجود قيد الحياة، ينزف، ويواصل النزيف، في كل مرة يروق فيها لمُريدي الحجّ إلى معبد الأبدية أن يتنكّبوا متاعهم للحلول في ممالك البعد الضائع، ليدفع هو، فاتورة الرحيل، ببقائه قيد العاجلة بشطرٍ من روح، لوجود النصف الثاني من هذه الأحجية في ركاب مَن ارتحل، سواء، أكان أباً، أو أمّاً، أو شقيقاً، أو صديقاً، لأن لغز الحبّ هو ما يجمعهم في حزب الفقد، فلا يجد السبيل لاستعادتهم سوى استجواب الذاكرة: ذاكرة تستطيع أن تُنبيء بما مضى من سيرتهم، ولكنها لا تستطيع أن تتنبّأ بمصيرهم، لا في حال حاضرهم ولا في مستقبلهم، فلا يبقى إلّا الاحتكام إلى بيت النوح، مادامت الحكمة الدهرية هي التي أوصت بأفضليّته على بيت الفرح، لأن يوم الممات أفضل من يوم الميلاد، فيتحسّر بتخلّفه عن ركبهم، ببقائه أسيراً شقيّاً في سجن يتحوّل فيه الفقد وجوداً، والوجود عدماً.

ماذا؟ الخلاص من ألم الفقد في التخلّص من الوزر، والإلتحاق بركب الحبّ، باعتناق دين حرية الأبعاد القصوى؟

لسان حال القلب الفجيع يجيب فيقول أن ميتة الإلتحاق بركاب الأبديّة أعظم حكمةً، وأهون مفعولاً، من البقاء قيد الباطل، إدماناً لإفيون الميتة المكرورة كل مطلع شمس، لأنها قدر الإنسان الفاني، الذي جازف يوماً، في لحظة ضعف، فتقبّل أن يرهن قلبه، في قلب إنسانٍ فانٍ، بوحيٍ من عرّافٍ لئيم هو: العزلة!

الميتة المكرورة حجّة حكيم محفل السابوع الذي تغنَّى: «بين الموت والحياة لا وجود لفرق»، عملاً بوصيّة شاعر ما قبل التاريخ، عندما تساءل: «ما أدرانا عمّا إذا لم يكن وجودنا موتاً، وما نحسبه موتاً فهو الحياة؟»، ترجمةً لوصيّة أخرى نبويّة: «الناسُ نيامٌ حتى إذا ماتوا انتبهوا». لأن الاغتراب عن الحقيقة في واقع الباطل موتٌ، أمّا الحضور في الحقيقة فوحده الحياة.

بهذا المنطق فالأحبّة الذين ارتحلوا هم الأحياء، وما نحن، في غيبوبتنا، سوى أشباح تثقل كاهل اليابسة، ولا يشفع لنا خطايانا، سوى ذلك النصيب، الذي استودعناه أخلّتنا الذين ارتحلوا، لأنه حبّ، والحبّ وحده الترياق في داء الفقد، والحجّة في أحجية الخلود.