في الوقت نفسه، يخضع الرئيس البرازيلي السابق جاير بولسانورو، الهارب في الولايات المتحدة، للمحاكمة في بلده.

ليست تهمة ترامب أنه دفع لستورمي دانيالز مقابل التزامها بعدم الحديث عن علاقة معها، إنما التهمة "تقنية" تماما بأنه خلال تحقيق سابق في الموضوع "كذب" على المحققين – أي ضلل العدالة. وتهمة بوريس جونسون أيضا هي "تضليل" البرلمان بشأن حفلات مقر الحكومة خلال فترات الإغلاق أثناء وباء كورونا. ولأن لجنة القيم قررت أن يكون الاستجواب تحت القسم، فإذا ثبت أنه كذب في إفادته يمكن أن يواجه تهمة جنائية تقضي على مستقبله السياسي. وهذا ما جعل بوريس يلمح إلى أنه سيرفض قرار اللجنة إذا أدانته.

أما بالنسبة لترامب، فإدانته والحكم عليه يهدد أيضا فرص ترشحه للرئاسة ثانية العام المقبل ويفسح المجال أمام أحد منافسيه من حزبه للترشح عن الجمهوريين.

يشترك الثلاثة، ترامب وبولسانرو وجونسون، في أمر أساسي وهو تحديهم لما يطلق عليه في نظم الحكم الغربية "المؤسسة". وتعني تشكيلا غير رسمي، ولا حتى محدد المعالم، للقوى التي تدير الدولة بغض النظر عن تغير الرؤساء والحكومات نتيجة الانتخابات. ربما لا يعرف الناس هؤلاء المنتخبين كل مدة، ويسميهم الجهاز البيروقراطي الذي يدير أمور الدول "معينيين سياسيين". ويظل المسؤول الفعلي عما تفعله الحكومة هم موظفو "الخدمة المدنية" كما تسمى في بريطانيا.

ليس هناك تعريف لما تسمى "المؤسسة" لأنها رسميا غير موجودة إنما يمكن القول إنها عبارة عن تلك الخدمة المدنية من كبار موظفي الوزرارات والإدارات وأجهزة الدولة مع مجموعة صغيرة من الشخصيات العامة ذات النفوذ التقليدي، إما بثرواتهم وأعمالهم أو وظائفهم الرفيعة سابقا بالإضافة إلى بعض مراكز الأبحاث والاستشارات. ونادرا ما يبتعد المعينون السياسيون الذين تأتي بهم الانتخابات الدورية عن الخط العام الذي تضعه "المؤسسة". وهناك من يرى أن تلك المؤسسة هي عصب النظام الذي يضمن استمرار الدول والمجتمعات رغم تغير الحكومات والبرلمانات.

جاء دونالد ترامب للرئاسة الأميركية "من خارج المؤسسة" كما يقال، رغم ثروته وشهرته من قبل. ولم تكن تلك مشكلة، إذ يحدث أحيانا أن يأتي سياسي من خارج المؤسسة ويتطبع بها ويصبح جزءا منها فيما بعد. لكن ترامب أساس مناهض للمؤسسة وتصرف هكذا من اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض وما بعد خروجه منه. وكانت قمة صراعه مع المؤسسة رفضه نتيجة الانتخابات التي جاءت بالديموقراطي جو بايدن للحكم في 2020.

أما بوريس جونسون، فلم يكن من خارج المؤسسة تماما إذ إن والده كان موظف خدمة مدنية في منصب رفيع. ودخل بوريس العمل العام نائبا للبرلمان وعمدة للعاصمة ممثلا لحزبه قبل أن يدخل الحكومة وزيرا. إلا أنه أفكاره وسلوكه يعد "مارقا" في رأي المؤسسة، وحاول فعلا وهو في رئاسة الحكومة الموازنة ما بين معارضة المؤسسة وبين إبداعه الشخصي، لكن النتيجة لم تكن جيدة على ما يبدو. فتم الضغط، البرلماني والجماهيري حتى اضطر للاستقالة.

لا يعني ذلك أن ترامب وجونسون وبولسانرو لم يرتكبوا ما يمكن أن يدانوا به من أخطاء في حق بلادهم وشعوبهم، ولا أيضا أنهم جاءوا للحكم بدون اختيار الجماهير في الوقت نفسه. فكلا الأمرين صحيح. لكن في أحيان أخرى ومع شخصيات غيرهم ربما مر تزوير الانتخابات أو ارتكاب الأخطاء التي تصل إلى حد الجرائم الجنائية بالإبعاد والاختفاء عن العمل العام. هذا إذا لم يعمد السياسي إلى التصدي للمؤسسة ومحاولة النيل من نفوذها وسطوتها وإدارتها لكل شيء خلف ستار من السياسيين المنتخبين.

واضح الآن أن المؤسسة لا تتهاون مع هؤلاء الذين يتعمدون الخروج عليها، ففي ذلك خطر أن يتكرر ويحدث تراكم نتيجة التكرار ينهي فكرة "المؤسسة" على المدى البعيد. لذا، يمكن اعتبار ما يحدث الآن مع هؤلاء من محاكمات واحتمالات الإدانة والسجن على أنه "قصاص المؤسسة". ليس بغرض الانتقام من صدامهم معها فحسب، وإنما لضرب المثل لمن يفكر في ذلك مستقبلا من السياسيين المنتخبين.

مع ذلك، وبغض النظر عن نتيجة قصاص المؤسسة هذا، فهؤلاء زرعوا بالفعل بذرة الخروج عن المؤسسة وتجاوز التقليدي والراسخ في العرف العام. أضف إلى ذلك أنهم لم يفعلوا ذلك في فراغ، فهناك تحولات تحدث في العالم منذ نهاير القرن الماضي هيأت المناخ لهذا الخروج عن "النهج السائد". بدأ ذلك بما سمي "المجتمع المدني" الذي ينافس مؤسسات الحكم والإدارة التقليدية. اجتذب ذلك مجموعات هامشية أصبحت عالية الصوت ومؤثرة في الحياة العامة بأكثر مما قسمت لها قدراتها الذاتية أو وزنها الاجتماعي والسياسي.

ثم إن انهيار الأيديولوجيات الكبرى التقليدية وانفضاض الناس عن سياسة المركز، من يمين ويسار، ذات الأهمية لاستمرار المؤسسة أدى إلى بروز "أطراف" من متشددين يمينا ويسارا – نازيون جدد من ناحية وفوضويون من ناحية أخرى.

ربما يسهل على المؤسسة الاقتصاص من أفراد مثل ترامب وجونسون وغيرهما، لكن من غير الواضح كيف ستقتص من كل تلك القوى الهامشية أو تتمكن من ضمها إليها لتصبح جزءا من "المؤسسة".