قد ينسحب هذا التأثير على جوانب علمية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، مثلما هو الحال مع "روبرت أوبنهايمر أبو القنبلة الذرية" عالم الفيزياء الأميركي الذي اكتنفت شخصيته جوانب كبيرة من الغموض واللبس.

كاد أوبنهايمر أن يُقصى عن العمل في مشروع "مانهاتن" الذي جرت فيه عمليات التصنيع والتجارب في منطقة "لاس آلاموس"، والسبب في هذا تقارير المباحث الفيدرالية وقطاع الأمن المسؤول عن العاملين في موقع المشروع، لكن القائد العسكري المكلف من البيت الأبيض ضرب عرض الحائط بإفادات الأجهزة الأمنية وبلاغاتها ضد أوبنهايمر التي تتهمه بالشيوعية، أو علاقاته الحميمة بالشيوعيين.

تبدى هذا من خلال مكاتبة ترقى إلى الأمر العسكري غير القابل للمراجعة جاء فيها: "وفقا لتوجيهاتي الشفهية في 15 يوليو، من المرغوب فيه إصدار تصريح يخص د. جوليوس روبرت أوبنهايمر فورا ودون تأخير، بغض النظر عن المعلومات الموجودة لديكم بشأن السيد أوبنهايمر، إنه ضروري للغاية للمشروع".

تمسكا بأوبنهايمر كانت هذه تعليمات قائد مشروع إنتاج السلاح السري الجديد العميد "ليزلى ريتشارد جروفز"؛ الذي ضغط بقوة، وهدد باللجوء إلى الرئيس الأميركي، الذي كلفه شخصيا بالإشراف على المشروع وإدارته، مع توفير كل الإمكانيات الإدارية والمالية، بعيدا عن القنوات الرسمية للدولة بما فيها وزارة المالية، ومنحة الصلاحيات الكاملة، حدث هذا الموقف الحاد من جروفز بعد أشهر من تولى أوبنهايمر الرئاسة الفنية للمشروع، ردا على محاولة الأجهزة الأمنية استبعاده نتيجة علاقاته المشبوهة بالشيوعيين.

عندما تم إبلاغ العقيد ليزلى ريتشارد جروفز أن وزير الحرب قد اختاره لمهمة على درجة بالغة من الأهمية، وأن الرئيس الأميركي بعد الاطلاع على ملفه وافق هذا الاختيار، وقتها لم يستطع جروفز إخفاء خيبة أمله لعدم تكليفه بمهمة قتالية، وبعد أن امتثل للأمر قابله وزير الحرب وأكد عليه أن إنجازه لهذه المهمة بشكل صحيح سوف يحقق للولايات المتحدة الانتصار النهائي في الحرب، وبناء على طبيعة الوظيفة الجديدة تمت ترقيته إلى رتبة العميد لتعزيز مكانته بين العلماء والأكاديميين العاملين في مشروع مانهاتن.

التقى العقيد جروفز الذي يمتلك الإقدام والشجاعة في اتخاذ القرار بأوبنهايمر عالم الفيزياء بجامعة كاليفورنيا - بيركلي، وناقش معه مثلما فعل مع آخرين قبله إجراءات إنشاء مختبر يمكن تصميمه لصناعة القنبلة واختبارها، أعجب غروفز باتساع معرفة أوبنهايمر، وأدرك أنه وجد فيه ضالته بعد محادثة طويلة أثناء رحلة قطار في أكتوبر1942، بسبب الفهم العميق لدى أوبنهايمر بطبيعة القضايا التي ينطوي عليها إنشاء مختبر ذي طبيعة خاصة في منطقة نائية.

لفت نظر جروفز أيضا إن لدى أوبنهايمر قدرات علمية متسعة؛ وسمات قيادية يفتقر إليها العلماء الآخرين، ولأن جروفز كان يفهم أن المعرفة الواسعة ستكون فاعلة بقوة في مشروع متعدد التخصصات؛ لا يقتصر على الفيزياء فقط، بل يشمل أيضا الكيمياء، وعلوم الهندسة والذخائر، راودته هو ومساعده فكرة الاستعانة بأوبنهايمر.

بمرور الوقت اكتشف جروفز جانبا مهما للغاية في شخصية أوبنهايمر؛ هو الطموح الجامح، وهذا سيوفر الدافع اللازم لتسريع المشروع نحو نهاية ناجحة، ومن ثم حسم مدير المشروع قراره بأن أوبنهايمر هو أفضل عالم يمكن أن يدير المختبر في الجوانب العلمية والتقنية، لذا وبناء على اقتراح أوبنهايمر تم اختيار منطقة لاس آلاموس بدلا من منطقة "أوك ريدج"، وسرعان ما دارت العجلة بالاستحواذ على مدرسة المزرعة في لوس ألاموس ، والاستيلاء على 54000 فدان من الغابات والمراعي المحيطة.

بالفعل تمكن أوبنهايمر العالم الفيزيائي المدير العلمي للمختبر في مشروع مانهاتن هو وفريق العمل بما يمتلكه من ملكات علمية وقدرات في إدارة التقنيات المستحدثة من إنجاز المهمة، وتصميم أول قنبلة في تاريخ الأسلحة النووية، واختبارها في صباح 16 يوليو من عام 1945 بموقع التجارب في صحراء "ألاموجوردو" الواقعة بولاية نيومكسيكو، قامت الولايات المتحدة بالتفجير التجريبي الأول الناجح للقنبلة الذرية في موقع أطلقت عليه تسمية "ترينيتي"، وقد كان هذا الاختبار الأولي تتويجاً لسنوات من البحث العلمي، وفي اليوم التالي تلقى الرئيس ترومان الذى كان يحضر مؤتمر بوتسدام برقية مشفرة "طفل ولد ولادة جيدة"

في فورة النشوة بنجاح السلاح الذري أطلق "أبو القنبلة النووية" أوبنهايمر صيحته المرعبة؛ التي زلزلت المحافل العلمية وأنصار السلام عندما ردد قولته: "الآن أصبحت الموت، مدمر العوالم" وربما كانت هذه صيحة ندم، لأنه فيما بعد حينما استعاد الرجل توازنه بدأ يتسرب إليه بشكل متزايد القلق من المخاطر المروعة للأسلحة النووية، تلك الأسلحة التي تحمل الفناء للبشرية وانضم إلى ألبرت أينشتاين، وبرتراند راسل، وجوزيف روتبلات وغيرهم من العلماء في التحذير من هذا السلاح المخيف.. في كتاباته العامة والمحاضرات التي كان يدعى لها، كان أوبنهايمر يشدد دائما على صعوبة إدارة قوة المعرفة في عالم تعوق حرية العلم فيه وتبادل الأفكار المخاوف السياسية التي أصبحت تزداد باستمرار.

في عام 1953 أوقف تصريح أوبنهايمر الأمني بناء على رسالة إلى إدجار هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى، تلقاها من المدير التنفيذي السابق للجنة الكونغرس الأميركية المشتركة للطاقة الذرية، متهما أوبنهايمر أنه عميل للاتحاد السوفيتي، ومن ثم أجريت له جلسة استماع.. كانت الشكوك تحيط به بسبب بعض صداقاته وزوجته وشقيقه وعشيقته وكلهم كانوا شيوعيين، وقد امتدت هذه الشكوك إلى أبنائه بعد وفاته ورفض طلب ابنته للعمل كمترجمة في الأمم المتحدة لأسباب أمنية؛ مما أدى لانتحارها.

استغل المدير التنفيذي للجنة الكونغرس الأميركية المشتركة للطاقة الذرية الذي كان من أنصار إنتاج القنبلة الهيدروجينية موقعه لأن أوبنهايمر عارضه وتهكم عليه بسبب إدراكه كعالم الخطورة البالغة لهذا التطوير، لهذا حاول عضو الكونجرس الإيقاع بأونهايمر؛ الذي كان من أنصار الرأي الذي يطالب بالاتفاق مع الاتحاد السوفيتي من أجل أن تظل الأسلحة النووية في حدود الاستخدامات التكتيكية، وإلغاء التطوير من الطرفين نحو القنابل الهيدروجينية.

انتهت حياته التي طالتها المفارقات في دراما شخصية تراجيدية وغادر عالمنا في 18 فبراير عام 1967 بسبب سرطان الحنجرة، هو من مواليد 22 أبريل 1904، وكان قد نال في أواخر حياته تكريما من الرئيسين الأميركيين جون كيندي وليندون جونسون اللذين سلماه جائزة "إنريكو فيرمي" التي تمنحها وزارة الطاقة في الحكومة الأميركية للعلماء المتميزين في هذا المجال.