البعض ترك الصحافة إلى مهن أخرى على هامشها توفر حياة أفضل، والبعض ما زال في المهنة أو تقاعد.

بالطبع كان ما يجري في منطقتنا والعالم الأمر الطاغي على الحديث، ربما أكثر من الذكريات والشجون أو الحديث عن الطقس كما يفعل الإنجليز عادة. رغم ذلك، حاولت أن أعرف من البعض حال وأوضاع مهنة الصحافة في مناطق أخرى من العالم غير العالم العربي أو بريطانيا. ووجدت كثيرا مما هو مشترك في حديث ناشر مخضرم يقيم في العاصمة الأميركية واشنطن وصحفي يعمل الآن في مجال الأعمال في سنغافورة.

لم أندهش كثيرا حين سمعت أن "الأحوال" بشكل عام في تراجع، ليس مهنيا فقط ولكن أيضا في جانب المال والإدارة. ورغم أن جانبا مني ارتاح لأن التراجع والتدهور "ليس عندنا فقط"، إلا إن جانبا آخر زاد من الاحباط رغم تفاؤلي التقليدي. كان عنوان الحديث مع القادم من غرب الأطلسي هو انهيار شركة "فايس" للإعلام الرقمي التي كانت قبل سنوات قليلة مصدر إلهام لكثيرين في منطقتنا باعتبارها الشكل القادم للإعلام والصحافة.

مثلها مثل أغلب شركات التكنولوجيا الناشئة، "حرقت" فايس أموالا طائلة ضخها المستثمرون المغامرون الذين يسعون وراء الربح السريع والعاجل بتمويل شركات تكنولوجية ناشئة على أمل أن تزيد قيمتها عشرات أو مئات الأضعاف فيجنون هامشا ربحيا هائلا وسريعا. لكن إفلاس الشركة بخر كل تلك الآمال العريضة للمستثمرين، ومعها الأموال وأيضا قدرا من المهنة الذي تضرر.

لعل الأهم كما اتفق معي الناشر المخضرم، الذي كانت له أعمال في أوروبا والشرق الأوسط قبل أن ينتقل تماما إلى الولايات المتحدة، هو تأثير انهيار فايس على المهنة الصحفية وصناعة الإعلام بشكل عام خاصة فيما يسمى "العصر الرقمي". فقد صاحب إطلاقها العقد الماضي فورة حول نموذج الإعلام الأفضل، خاصة باستخدام الوسائط المرئية من فيديو وغرافيكس. ومع أهمية المحتوى البصري، وربما السمعي، عن القراءة والنص للأجيال الجديدة من جيل الألفية وما تلاه إلا أن تلك الأجيال يبدو وأنها "تشبعت" إلى حد ما وعادت شرائح كبيرة منها إلى "القراءة"، بل ولم تعد القراء بالتصفح عبر مواقع التواصل كافية، إنما عاد الطلب على المنتج الصحفي والإعلامي التقليدي – طبعا في صورة رقمية عبر المواقع وروابطها التي تروج على مواقع التواصل وغيرها.

وذلك ما جعل شركة فايس قبل انهيارها التام، وفي سياق محاولات توفيق أوضاعها، تتخلى عن منتج الأخبار فيها لصالح التحقيقات المصورة غير الآنية وأشكال المحتوى الأخرى. وحسب ما ذكر الناشر العجوز فإن الشبكات الأميركية الكبرى هي وحدها الآن القادرة على الاستمرار في إنتاج وتقديم الأخبار. يساعدها على ذلك طبيعة الصحافة الإخبارية التي تطورت في الولايات المتحدة من صحافة التقريرية الصارمة إلى مزج الخبر بالرأي في توليفة صحفية تجاوزت النموذج الأوروبي التقليدي.

حين ينتقل الحديث للصحافة والإعلام في العالمي العربي، كان الحديث أكثر عن الماضي والذكريات، دون حتى أي مقارنات مع الحاضر. أما عن الحاضر فطغت أحاديث السياسة والأعمال على موضوعات مهنة الصحافة والإعلام. وإن كان الحديث عن الصحافة حاليا خلا من المقارنة مع الغرب والشرق، لكنه بالطبع عرج أحيانا على أوجه التشابه خاصة في تقلص مساحة الموضوعية بشكل عام وأيضا طغيان أشكال المنتج الصحفي التي يفترض أنها تستهدف الأجيال الشابة والصغيرة.

مع الأخذ في الاعتبار أن كل الحاضرين يعدون من "الجيل القديم" من الصحفيين، فإن خبرتهم التي شهدت تحولات ضخمة من الصحافة التقليدية إلى إعلام المقطع الصوتي والفيديو القصير جعلتهم أكثر قدرة على استخلاص الدروس مما وصلت إليه المهنة. ومرة أخرى، فإن الدروس في أغلبها تشير إلى أن هناك "أزمة" وأيضا أنها ليست قاصرة على إعلام الدول النامية والصاعدة فحسب بل في الغرب والدول التي توصف بأنها "متقدمة".

ربما كان الدرس الأساسي المستخلص هو أن وسائل الإعلام والمنافذ الصحفية التقليدية لم تتعامل مع التطورات التكنولوجية المتلاحقة بسرعة بالشكل الصحيح تماما. إذ أنها اعتبرت مثلا مواقع التواصل "منافسا" بدلا من اعتبارها إضافة متطورة لوسائل نشر وتوسيع نطاق وصول المنتج الصحفي لجمهور أوسع. وبالتالي وقعت المهنة تحت ضغط المنافسة مع وسيلة مختلفة وأسهمت بنفسها في "تمييع" منتجها الذي أصبح يلاحق مواقع التواصل بدلا من أن تضع وسائل الإعلام "الأجندة" وتستفيد من تلك الوسائط التكنولوجية في تنفيذها وانتشارها.

يرى بعض المتفائلين أن الصعود السريع والقوي لأشكال المحتوى الإعلامي الجديدة، ثم انطفاءها بسرعة أيضا، قد يمثل فرصة للصحافة التقليدية لتعود إلى المقاعد الأمامية في المشهد الإعلامي العالمي. لكن للأسف، هناك توجه عام الآن من تراجع الأخبار لصالح الموضوعات الخفيفة الأقرب إلى الترفيه. وإذا كان البعض ما زال مؤمنا بدور الصحافة والإعلام باعتبارها "سلطة رابعة" إلى جانب السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية فإن ما حدث في العقدين الأخيرين جعل هؤلاء "قلة" إلى حد ما.