صحيح أن هذه المواقع تعددت وتضخمت خلال عقدين، لتصبح شركة "ميتا" التي تملك فيسبوك قيمتها أكثر من تريليون دولار، لكن تلك الآمال المبكرة تبخرت، ولم تعد تلك المواقع "اجتماعية" ولا حتى "إخبارية".

في اليوم الأخير من الشهر الماضي، تعرض مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، لانتقادات قاسية في إحدى لجان الكونغرس الأميركي بسبب المخاطر التي يشكلها موقعه على مستخدميه خاصة على الأطفال. صحيح أن زوكربيرغ أعلن في اليوم التالي عن الأداء المالي لشركته في ربع العام الأخير بعائدات وأرباح هائلة، لكن ذلك المسار لم يعد مضمونا بعدما أصبحت تلك المواقع "شيئا" آخر غير الذي بدأت به.

في البداية، كان الأمر مزيجا بين تواصل المعارف والأصدقاء عن بعد عبر الانترنت والاطلاع على الأخبار والمعلومات بطريقة سهلة وسريعة، هذا إلى جانب تبادل الآراء والأفكار. أما اليوم، فأصبح اطلاعك على ما ينشره أصدقاؤك ويظهر على صفحتك في حده الأدنى، إنما تفتح هذا الموقع أو ذاك لتجد أمامك كميات هائلة من الفيديوهات القصيرة ومنشورات الترويج التجاري.

وأضافت منصات وتطبيقات جديدة، مثل التطبيق الصيني "تيك توك" أو "إنستغرام"، لهذا التوجه باعتمادها أساسا على مقاطع الفيديو القصيرة وتركيزها على الترويج لتحقيق الأرباح. وهو ما تبعه فيسبوك بإضافة خصائص جديدة تنافس في هذا التوجه.

في النهاية، لم تعد هذه المنصات والتطبيقات وسائل للتواصل الاجتماعي وإنما لتطلق على مستخدميها كما هائلا من المنشورات والفيديوهات التي تحددها خوارزميات الموقع استنادا إلى ما يوصف بأنه "سلوك التصفح" للمستخدم. والحقيقة أن الهدف لم يعد أن يتواصل المشتركون مع معارفهم في قائمة أصدقائهم أو يطلعوا على الأخبار والمعلومات والآراء من المصادر الموثوقة التي يتابعون صفحاتها على هذا الموقع أو ذاك.

بغض النظر عما قد يعتبر استمرارا للنمو في أعداد مستخدمي تلك الواقع في منطقتنا وبعض مناطق العالم الأخرى، فإن الأرقام والاحصاءات من شركات أبحاث السوق تشير إلى بداية منحى تراجع – على الأقل في الاستخدام رغم عدم هبوط الأعداد بعد. ومن الأمثلة الصارخة أن استهلاك الأخبار على مواقع التواصل لم يعد يتجاوز نسبة ثلاثة في المئة!!

ثم هناك تحول مضطرد للمستخدمين من مواقع مثل فيسبوك وإكس (تويتر سابقا) إلى مجموعات تواصل على منصات مثل واتساب وتليغرام. فتلك المجموعات التي يشارك فيها المستخدم ليس بها خوارزميات تفرض عليه مطالعة ما لا يريد، إنما هي مشاركة للأخبار والمعلومات والآراء من قبل أعضاء المجموعة فحسب، كما أن الرسائل على المنصتين مشفرة أيضا. لكن حتى هذا التحول أصبح يتشبع بسرعة ويفقد المستخدمون الاهتمام بالمتابعة إلا في حالات الضرورة.

لا يعني ذلك أن مواقع التواصل في وضع تراجع أو تدهور، لكنها شهدت تحولا أبعدها تماما عما كانت عليه في بدايتها وما كنا نسمعه ونقرأه عن أنها "ثورة الحرية" الجديدة وسبيل التطور الاقتصادي الذي تقوده التكنولوجيا. وأصبحت الشركات المالكة لتلك المواقع تركز تطويرها التكنولوجي على الخوارزميات أكثر من مراقبة المحتوى وتدقيقه. وهدف التطوير هو تجاري صرف. فمجرد مرورك على فيديو ترويجي حتى دون مشاهدته تحسب مشاهدة وبالتالي ينتشر الفيديو أكثر باعتباره أكثر متابعة حسب الخوارزميات التي باتت تعتمد على الذكاء الاصطناعي – بذكائه التجاري المحض.

لعلنا نتذكر كيف أن المشاهير في كل مجال، والسياسيين من كل لون، نشطوا على مواقع التواصل في البداية كأفضل وسيلة لاستخدام الإنترنت للتأثير في الجماهير، خاصة الشباب منهم. وفتح ذلك الباب أمام الانتشار الهائل للكذب والتلفيق وترويج نظريات المؤامرة والتضليل والتي كانت صارخة في فترة وباء كورونا.

لا أتصور أنه في عام الانتخابات الحالي سنجد هؤلاء السياسيين المشاهير يعتمدون تلك الوسيلة بالقدر الذي فعلوه قبل أربع أو خمس سنوات. ولا عجب إن شهدنا أساليب دعاية انتخابية تقليدية تعود مجددا، بالطبع إلى جانب استخدام مواقع التواصل ولكن ليس بالقدر نفسه كما كان سابقا.

يذكرني تطور مواقع التواصل هذا بمنفذ إعلامي شهير اتسم في بدايته بالمهنية العالية والموضوعية إلى حد كبير. وبعد سنوات، حين أصبح أحد أكثر المنافذ الإعلامية التقليدية تأثيرا وكون جمهورا هائلا من المتابعين الموالين، ظهرت سياسته التحريرية الحقيقية وتراجعت الموضوعية لصالح الترويج الشعبوي والإثارة التي تقترب أحيانا من "الصحافة الصفراء".

لا يعني كل ذلك أن مواقع التواصل، التي يتابعها الآن أكثر من ثلاثة مليارات شخص حول العالم، في طريقها للانتهاء. فذلك المنفذ الإعلامي المشار إليه يظل الأكثر شعبية حتى الآن بين متابعي الأخبار والرأي. إنما بدأنا نشهد مقدمات التحول عنها بعدما لم تعد اجتماعية ولا مصدرا للأخبار يعتد به. وحتى إذا لم تسد منصات جديدة تلك الفجوة، من قبيل مجموعات واتساب وتليغرام، فإننا سنشهد تشبعا سريعا يأخذ منحنى الصعود لتلك المواقع إلى الأسفل.