فقد استهل الرئيس جو بادين ولايته الرئاسية واضعا إياها تحت عنوانين، الأول تسريع الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد عقدين على حرب أميركا الانتقامية ردا على هجمات 11 سبتمبر 2001. والثاني إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة) بعدما كان سلفه الرئيس دونالد ترامب انسحب منه عام 2018 معيدا فرض حزمة عقوبات كبيرة ضد إيران.

لم ينس الرئيس بايدن وعوده الانتخابية المرتبطة بحرب اليمن، ففي سياق سياسة استمالة طهران لحملها على العودة إلى طاولة المفاوضات بشأن الاتفاق النووي، عمل منذ الأيام الأولى لدخوله البيت الأبيض بنهاية يناير 2021 على رفع جماعة الحوثي من لوائح الإرهاب ورفع شعار إنهاء حرب اليمن ولو على حساب علاقاته مع الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة في المنطقة.

في أبريل 2021 انطلقت المفاوضات بين إيران ومجموعة 4+1 زائد الولايات المتحدة التي لم تكن حاضرة في غرفة الاجتماعات. وكانت آمال الإدارة الأميركية أن تقفل ملف الاتفاق النووي خلال ستة أشهر انسجاما مع المسار الذي كان سبق أن اختطّه الرئيس الأسبق باراك أوباما.

أتى قرار بايدن بتسريع الانسحاب الأميركي من أفغانستان (كان في الأصل قرار اتخذه سلفه الرئيس دونالد ترامب) في أغسطس ليكشف عن إصرار أميركي على الخروج من نزاعات عالقة في الغرب والوسط الآسيوي بهدف تحويل كل المواد الأميركية صوب التنافس الاستراتيجي مع الصين. فقد جرى التركيز على العودة إلى مسار العلاقات التي أرساها باراك أوباما مع الإيرانيين علما أو ضمنا بعد اتفاق العام 2015، إضافة إلى إقفال مرحلة حرب أفغانستان. لكن هدف إنعاش الاتفاق النووي لم يكن بالسهولة التي ظنتها إدارة بايدن. أما الانسحاب من أفغانستان فقد تم بنهاية أغسطس 2021 بشكل فوضوي أثر كثيرا على صورة أميركا لا سيما بين حلفائها.

طوال أشهر تلت لم تسر الرياح الدولية كما اشتهت سفينة الإدارة الأميركية. فقد تعقدت محاولات إحياء الاتفاق النووي الإيراني بعد خروج الجناح الإصلاحي في النظام من الحكم. ثم أتى حدث مفصلي ليغيّر المشهد الدولي بأكمله مع بدء الحرب الروسية - الأوكرانية نهاية فبراير 2022. وقد تحولت الحرب إلى مواجهة مباشرة بين روسيا والغرب على الأرض الأوكرانية.

انخرطت إدارة الرئيس بايدن في الحرب بشكل مكثف، بدءا من تفعيل حلف شمال الأطلسي، ثم زيادة عدد القوات الأميركية المنتشرة في أوروبا الشرقية، وإقرار مساعدات عسكرية ومالية ضخمة دعما لأوكرانيا قدرت بمئات المليارات من الدولارات.

لم يتغير الموقف حتى نهاية صيف العام 2023. استمر الاتفاق النووي الإيراني معلقا، وتواصلت جولات الحرب الروسية - الأوكرانية العنيفة والمدمرة. لكن في السابع من أكتوبر 2023 أتت المفاجأة من الشرق الأوسط مع قيام حركة "حماس" بعملية "طوفان الأقصى" التي تسببت في غلاف غزة بمقتل اكثر من 1200 إسرائيلي، واشعلت حربا مهولة شنتها إسرائيل ضد "حماس" وبقية الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، ردا على "طوفان الأقصى".

ولئن راهن بعض المراقبين على حرب سريعة، فقد أتت الوقائع لتثبت أن المنطقة دخلت في حرب طويلة، ومتعددة الأبعاد. فبالإضافة إلى العنف الكارثي للحرب الإسرائيلية، اشتعلت حروب "مشاغلة" في المنطقة، من لبنان وسوريا والعراق واليمن، دفعت الولايات المتحدة إلى الانخراط أكثر في منطقة كانت إدارة بايدن تعلن عن نيتها خفض وجودها وانخراطها في أزماتها بشكل كبير.

فقد أجبرت حرب غزة المستمرة المتواصلة منذ أربعة أشهر إدارة الرئيس جو بايدن على الانخراط مجددا في المنطقة بثلاثة مستويات: سياسية من خلال تفعيل فكرة "حل الدولتين"، وعسكريا من خلال تكثيف الوجود العسكري لردع إيران وفصائلها ومنع فتح جبهات أخرى ضد إسرائيل، وأخيرا العودة بشكل شبه منفرد إلى لعب دور شرطي البحار والممرات الدولية في منطقة باب المندب والبحر الأحمر.

كل ذلك والصين المنافس الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة تقف موقف المتفرج في منطقة حيوية لعبور صادرتها إلى أسواق دول البحر الأبيض المتوسط والقارة الأوروبية. ولم يفت الصين أن ترفع طوال الأعوام الثلاث الماضية من منسوب التوتر بوجه جزيرة تايوان، وبمواجهة الحضور الأميركي العسكري في بحر الصين الجنوبي الذي تعتبره بكين بحيرة صينية تعمل على إخراج واشطن منها بشكل نهائي، إذا تمكنت من استعادة تايوان.

انطلق الرئيس جو بادين بولايته وهو يرفع شعار الانسحاب من الأقاليم المشتعلة كالشرق الأوسط، وطي صفحة الحروب من أفغانستان، إلى اليمن، والتفرغ للتنافس الاستراتيجي الضخم مع الصين. وها هو يشرف على نهاية الولاية وقد انخرطت إدارته رغما عنها في حرب داخل أوروبا، وأخرى في الشرق الأوسط، وثالثة في الممرات البحرية الدولية. فيما بدأ البنتاغون يعيد النظر في تقديراته بشأن الأفق الزمني لهجوم صيني محتمل على جزيرة تايوان، وقد تقلص من 2030 إلى 2027. بمعنى أن أميركا مضطرة أن تتحضر أيضا لمواجهة استحقاق حرب جديدة في بحر الصين الجنوبي. فهل بدأت أميركا تلامس حدود طاقتها على مواجهة الاستحقاقات الاستراتيجية؟