ومع ذلك فلا شيء يردع إسرائيل عن توجيه ضربات موجعة تطال شخصيات قيادية في حزب الله في جنوب لبنان، ويواصل الأخير إمطار شمال إسرائيل بالصواريخ. وفق هذا المشهد يكتب الوسطاء سطور الاتفاق المحتمل متعايشين مع مرحلة صعبة من الدم والنار على جانبي الحدود.

تتحدث بعض التقارير في باريس عن "اتفاق حدود نهائي" تتولى رعايته لجنة من خمس دول هي: الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا. وتكشف معلومات في لندن عن تفاهم يشبه "تفاهم أبريل" الذي انتهت إليه حرب "عناقيد الغضب" عام 1996. غير أن لبنان وإسرائيل، ووفق العنوان الذي يردّده أمين عام حزب الله، يدركان أن أي تهدئة وصولا إلى تفاهم  أو اتفاق على حدود البدين، لن تكون ناجزة قبل وقف الحرب ضد غزّة. 

وإذا ما خُيّل للدبلوماسيين الدوليين، أن اتفاقا بين حماس وإسرائيل بات قريبا يؤسّس لهدنة قابلة للتفاوض لإنهاء الحرب، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة وكلام الليل يمحوه النهار. فحتى بوجود وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن في المنطقة وبعد محادثات مع رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أعلن الأخير "الحرب على رفح".

بدا أن وزيري خارجية بريطانيا (ديفيد كاميرون) وفرنسا (ستيفان سيجورنيه) اللذين زارا بيروت تباعا يحملان ملفا جدّيا لإنهاء التوتر على الحدود الجنوبية اللبنانية، ليس فقط لتبريد مؤقّت لجبهة مشتعلة قد توسّع نطاق الحرب في غزّة، بل كحالة دائمة سبق لزعيم حزب الله أن اعتبرها "فرصة تاريخية لتحرير الأراضي اللبنانية" بما في ذلك إنهاء النزاع الحدودي ناهيك من الانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا والقسم اللبناني من قرية الغجر.

وبدا أيضا، وعلى نحو ملفت، أن المجتمع الدولي يطلّ بشكل مختلف على الأزمة الاقتصادية التاريخية التي يعاني منها لبنان، بحيث يقرن الاتفاق اللبناني الإسرائيلي العتيد بمساعدات اقتصادية دولية واستثمارات واعدة توحي للبنانيين بالبحبوحة والازدهار. وتظهر فوق ذلك مؤشرات عن دعم دولي "لا محدود" للجيش اللبناني لتمويل ما يحتاجه للانتشار في جنوب البلاد.

ورغم ضبابية تلك الوعود في ظل موقف سياسي إقليمي دولي معادٍ لسطوة طهران على قرار بيروت وما يعنيه ذلك من إعراض دول مانحة عن ضخّ سيولة مالية في أوردة لبنان الاقتصادية، فإن أسئلة تطرح يشأن استفاقة العالم على "كارثة" لبنان الاقتصادية من جهة وقدرة النظام السياسي اللبناني على ملاقاة تلك الاستفاقة.

تعمل الدبلوماسية الأوروبية تجاه لبنان بالتنسيق الكامل مع تلك الأميركية لإيجاد بيئة حاضنة لاتفاق لبناني إسرائيلي يكون منفصلا عن مآلات حرب غزّة ونهاياتها. فإذا ما طرق وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أبواب المنطقة من جديد للاهتداء إلى معالم حلّ ينهي حرب غزّة، فإن مستشار الرئيس جو بايدن، آموس هوكستاين، الذي التقى قبل أيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، ناشط بصمت لإنضاج طبخة الحدود البريّة بين لبنان وإسرائيل بعد أن نجح قبل ذلك في جرّ الطرفين إلى أبرام اتفاقية الحدود البحرية بينهما.

والواقع أن الدبلوماسيين الدوليين يتفاوضون مع الدولة اللبنانية بصفتها واجهة لحزب الله وناطقة باسمه في قضايا استراتيجية مثل تهدئة الحدود ووقف إطلاق النار واتفاق ترسيم الحدود وحتى قضايا التنقيب عن النفط والغاز. ومنذ حديث زعيم الحزب عن "الفرصة التاريخية للتحرير الكامل" للأراضي اللبنانية في عزّ المعارك الحدودية بين حزبه وإسرائيل، بدا في ذلك رسالة مفادها استعداد الحزب للتفاوض، وبدا من ردّ فعل واشنطن وباريس ولندن وحتى إسرائيل استعداد للاعتراف بالحزب (من خلال حكومة بيروت) طرفا جدّيا لعقد المفاوضات وإبرام الاتفاقات.

وطالما أن إغراءات الاتفاق وجوائزه المالية لخزينة لبنان هي الواجهة المستحدثة في التفاوض، فإن شروط أي "تفاهم" مرتبطة بامتثال الطرفين "الجزئي" للقرار الأممي رقم 1701 الذي صدر إثر حرب عام 2006. صحيح أن نصّ الاتفاق واضح في بنوده، غير أنه، كأي نصّ قانوني، خاضع للتفسير والتأويل والاجتهاد، وخاضع أيضا لما يمكن أن يؤمّنه، هذه الأيام، من مصالح سياسية لهذا الطرف أو ذاك.

يتأسّس الاتفاق على شرط يطالب من الجهة اللبنانية بانسحاب حزب الله إلى مسافات متفاوتة وحتى إلى شمال الليطاني بعيداً عن الحدود. وفيما تسرّبت معلومات تتحدث عن انسحاب الحزب مسافة 7 كيلومترات كحل وسط، فإن وزير خارجية لبنان، عبد الله بوحبيب، تبرّع بالتحدّث باسم حزب الله في التعبير عن رفض لبنان انسحاب الحزب إلى ما وراء الليطاني، مقلّلا من إمكانات الجيش اللبناني والنقص في العدّة والعتاد. وحين قوبل موقفه باستهجان كونه يمسّ بسيادة الدولة ويستهتر بقرار السلم والحرب، عاد ونفى تصريحاته واعتبرها مجتزأة. وكانت تسريبات الاتفاق تحدثت، إضافة إلى انسحاب الحزب، عن نشر 10-12 الف جنديا لبنانيا سيعملون مع انتشار متناسب مع الاتفاق لقوات اليونيفل العاملة في جنوب لبنان.

وبغضّ النظر عن حسابات الوزير والحزب من ورائه كما المناورات السياسوية الداخلية، فإن بيروت ونخبتها السياسية تعيد التموضع وفق أعراض اتفاق حدودي بدا أنه قرار دولي يحظى بدعم إقليمي، بما في ذلك دعم إيران التي توفد وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت. غير أن الجدية الحقيقية في هذه التحوّلات لن تظهر بالنسبة للبنانيين إلا إذا انسحبت بشكل ديناميكي على ملف انتخاب رئيس للجمهورية. 

وفيما يَعِدُ الدبلوماسيون بخماسية دولية ترعى اتفاق الحدود، فإنه في غياب تحرّك نوعي لخماسية أخرى معنيّة بشأن اللبناني تضم الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، فإن مصداقية الورشة الدبلوماسية الدولية وحوافزها المالية ستبقى على المحك يعوزها ناظم محوري لكل التحوّلات التي ينتظرها لبنان ويعوّل على حدوثها اللبنانيون. وإذا ما يخشى لبنان اتفاقات قد تكون طهران محورها برعاية الخماسية الدولية، فإن في الخماسية الدولية الإقليمية ما يمكن أن يفرض رقابة رادعة لـ "صفقة" تمنح طهران، كما منحت دمشق، سابقا اليد الطولى في إدارة شؤون البلد.